هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مما لا شك فيه، فرادة القضية
الفلسطينية بين قضايا حركات التحرر الوطني، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية،
من حيث اغتصاب الأرض بالقوة والتآمر الاستعماري وإقامة دولة قسرا من العدم، بدون
وجه حق، وطرد أصحابها الأصليين بمئات الآلاف، وإحلال مستوطنين غرباء في أماكنهم،
أخذوا يرتكبون المذابح والفظائع ضد الفلسطينيين، ويهدمون قراهم ومدنهم، اتكاء على
وعود تدّعي الألوهية، وهي في حقيقتها مخترعة من قبل الحاخامات اليهود.
بمعنى آخر، فإن دولة الكيان الصهيوني، تصّر
على إدخال الدين بشكله اللاهوتي سببا للصراع، رغم أن كلمة اللاهوت ارتبطت بشكل
مطلق بـ»لاهوت التحرير الوطني» في أمريكا اللاتينية. التعبير استعمله المفكرون
الصهاينة نوردو، هرتزل، جابوتنسكي، مناحيم ريبالو وغيرهم بخبث كبير (كما يقول
الراحل عبدالوهاب المسيري في كتاب «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية») للإضفاء
على الصهيونية صفة «حركة تحرر وطني لليهود»، بما يعنيه ذلك من أنهم شعب وقومية
وأمة، وهي أوصاف لا تنطبق عليهم لا من قريب ولا بعيد.
المفكرون الصهاينة في عملية زيف وخداع كبيرين،
يحاولون تحويل بنية الفكر الصهيوني إلى ما يشبه بنية العقائد العلمانية الشاملة،
في التشكيل الحضاري الغربي الحديث. يحاولون زيادة قيمة الدولة (على شاكلة الدول
الغربية) على حساب كل شيء آخر، حتى الأحزاب فيها، حتى تصبح الدولة الركيزة
الأساسية للمجتمع، ومصدر تماسكه الوحيد (بدلا من القيم الدينية)، ثم تصبح الدولة
موضع التقديس، الذي يحل محل الكنيس ويهوه إلى حد ما، ومصلحتها الإطار المرجعي
للمنظومة القيمية الثقافية، التي تدّعي وحدتها وليست ثقافات متعددة، بفعل تنوع
الإثنيات.
جاء هذا التحول النظري (البعيد عن العملية
لاعتبارات كثيرة: التوجهات الدينية للأحزاب، التناقضات الإثنية للإسرائيليين) في
الكيان الصهيوني، مرافقا لظهور القومية في الغرب، حيث أصبحت الدولة الإطار الذي
يعبِّر الشعب من خلاله عن ذاته، ويحقق تماسكه ووحدته، ثم يصل هذا التيار إلى
ذروته، مع ما طرحه الفلاسفة الماركسيون، إذ أصبحت الدولة الأداة التي يتوسل بها
عموم المجتمع «أهدافه المطلقة استراتيجيا» لتحقيق ذاتها، بل أصبحت تجسد الفكرة
المطلقة في التاريخ. إسرائيليا، فإن الدولة اليهودية هي الإطار، الذي سيعبِّر
الشعب الذي ادّعى دوما أنه منبوذ في العالم، عن هويته، من خلال هدفه المطلق إنشاء
واستمرار وجود إسرائيل.
وتكتسب الدولة في الفكر الصهيوني دلالة أخرى، هي فكرة
الدولة الراعية ليهود العالم. فقد أدرك الصهاينة من اليهود في مرحلة هرتزل، أنه لن
يتأتى لهم تحقيق مشروعهم القومي إلا من داخل مشروع الاستعمار الغربي. ومن هنا كان
البحث عن دولة غربية عظمى، تقوم بعملية نقل اليهود وتوطينهم وتأمين موطئ قدم لهم،
والدفاع عنهم ضد السكان الأصليين، وهذا ما حصل.
لكن ما سعوا إليه من علمانية حقيقية
وديمقراطية على شاكلة الدول الغربية باء بالفشل، فاكتسبت البنية اليهودية في
إسرائيل أبعادا دينية مطلقة، وأصبحت هي آلية تَحقُّق الحلم المشيحاني (الثوري
الشعبي) بل مركز الحلول. وبعد استمرار الدولة الصهيونية لعقود، ومع انتشار لاهوت
موت يهوه (الإله)
بين اليهود (مبدأ نيتشه في
كتابه المعروف «هكذا تكلم زرادشت»)، أصبحت الدولة حرفيا هي تَجسُّد الهدف المطلق،
فهي على حد قول أحد الحاخامات اليهود كشتئيل «العجل الذهبي» (وقد تراجع هذا التيار
نحو تقديس الدولة) مع الانتفاضة عليها وضرورة الإبراز الدائم للاهوت التحرير بين
اليهود، لتحرير باقي الأجزاء المحتلة من «أرض إسرائيل».
بالنسبة للاهوت التحرير، فكما يُعرّف علميا
هو، مزيج من اللاهوت المسيحي والتحليلات الاجتماعية – الاقتصادية اليسارية،
التي تشدد على الاهتمام الاجتماعي بالفقراء، وقضايا التحرر الوطني السياسي للشعوب
المحتلة أراضيها، والمغتصبة إرادتها، والأخرى المضطهدة من قبل حكامها، وهو ما كان
يمثل الممارسة السياسية لعلماء الدين في أمريكا اللاتينية، بوجه خاص في
خمسينيات وستينيات القرن العشرين.
ومن أبرزهم جوستافو غوتياريز
من البيرو، ليوناردو بوف من البرازيل، وخوان لويس سيغوندو من الأوروغواي،
وجون سوبرينو من إسبانيا، الذين جعلوا عبارة «الخيار التفضيلي للفقراء»
شائعة، ثم تحولت إلى «لاهوت التحرير» عندما برز في أمريكا اللاتينية دعاة إنجيليون
أيضا يدعون إلى الثورة، مثل رينيه باديلا، وصموئيل إسكوبار، وأورلاندو كوستاس،
دعوا في خمسينيات القرن العشرين لـ»المهمة المتكاملة»، مشددين على التبشير
بالإنجيل، وعلى المسؤولية الاجتماعية والسياسية التحريرية له. ولهذا الدور الوطني
الجليل أخذ يطلق على قضايا تحررية أخرى، فمثلا لاهوت التحرير الفيتنامي، لاهوت
التحرير في دول كثيرة في أمريكا اللاتينية، لاهوت التحرير الفلسطيني، إلخ.
الكنيسة
الأنجليكانية الأمريكية، ونظرا لتماهيها مع الأهداف الصهيونية، وروايتها
التضليلية، أطلق على لاهوتها صفة «الأسوَدْ»، كذلك كان الأمر في نظام الفصل
العنصري في جنوب أفريقيا، والحكام الديكتاتوريين في آسيا وأفريقيا وأمريكا
اللاتينية، لأن حركات التحرر الوطني في تلك البلدان دعت إلى تحرير شعوبها من
عبوديتهم السوداء، وتبعيتهم للدوائر الاستعمارية والكولونيالية، رغم ادّعاء بعض رؤسائهم
بتحرير بلدانهم.
بالمعنى الفعلي لا يفهم من
تعبير «لاهوت التحرير» المعنى الديني، بمعنى آخر، أن القوى الدينية وحدها هي التي
تقوم بالثورة التحررية، فهو يضم، مثلما قلنا، ظواهر اجتماعية اقتصادية وسياسية
طبقية، فمشروع وطني تحرري لشعب محتلة أرضه ومضطهد، مرتبط في نجاحه ووصوله إلى
أهدافه واستكمال التحرير بالقوى الاجتماعية القادرة على إنجاحه، التي لها مصالح
مشروعة في تحقيق أهدافه، هذه القوى متنوعة، فهي طبقات وفئات وأحزاب، ومنظمات
وشرائح اجتماعية وطنية وثقافية تؤمن بلاهوت التحرير، وقادرة على الإيفاء بالتضحيات
في الصراع مع العدو، ذات برنامج جمعي على أساس القواسم الوطنية المشتركة، التي
تتجه في بوصلتها نحو تحرير كامل الوطن المحتل. كما يتوجب أن تكون علاقاتها مؤسسية
في جبهة وطنية عريضة، وهي أحد اشتراطات التحرير، وأن تكون قائمة على الديمقراطية
والمشترك النضالي، لبناء وطن الحرية والعدالة والمساواة مستقبلا.
من أجل ذلك يتوجب أن تتعلم
من أخطائها في المراجعات السنوية الجماعية الشاملة التي تجريها، بعيدا عن التفرّد
وأسلوب المحاصصة، وهيمنة فريق على حساب المجموع، وفرض رؤاه السياسية، حتى لو أثبتت
فشلها العملي، وألحقت أكبر الضرر بالمشروع الوطني. إن طريق الثورة طويل وأعباؤه
مكلفة، ففي كثير من الأحيان يتوجب التضحية بالنفس..
كذلك، تكثر المؤامرات الخارجية
من قبل تحالف الأعداء، لحرف الثورة عن أهدافها، ومحاولة جرّها إلى مسارات مهلكة
تحت شعارات: الواقعية، البراغماتية، المرحلية، تقزيم الأهداف، محاولة تخريبها من
داخلها، ضربها عسكريا في مواقع عديدة، اغتيال العديد من قادتها وكوادرها، اعتقال
كل من له علاقة بالنضال، تجنيد العملاء، الأخطر هو الانقسامات فيها، وهذا ما يخطط
له حلف الأعداء الثلاثي. يتوجب على حركة تحرر وطني أن تقرأ عدوها جيدا، وتتابع ما
يجري في داخله، فعدونا الصهيوني يقرأنا جيدا، حتى أن كل ما يصدر في الوطن العربي
من إعلام مؤرشف في مكتبة «الجامعة العبرية» حتى مجلات المقاومة الفلسطينية وإصداراتها
منذ سنوات طويلة.
أذكر تعبيرا لزبينغيو بريجنسكي عن ثورتنا
الفلسطينية عام 1971 يقول فيه «سنقتل المقاومة الفلسطينية بالدراسة». على مدى عصور
طويلة حاولت الطبقات الحاكمة ربط السلطة بالدين، لتسويغ سياساتها للجماهير من جهة،
ولتعزيز سلطتها من جهة ثانية، فهؤلاء يجدون في الدين المنظومة المعيارية الأكثر
والأسهل توظيفا في المستوى السياسي والأيديولوجي، خاصة عند توظيف رجالات الدين في
أماكن مهمة، وهؤلاء مستعدون لتوظيف الدين في خدمة القرارات التي يتخذها الحاكم
أيّا كانت. لهذا وجدنا شيخ الأزهر يبرر للسادات توقيعه اتفاقيتي (معاهدة كمب
ديفيد) استنادا إلى الآية الكريمة «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها» مع أن تطبيق هذه
الآية الكريمة يجري عندما تكون الغلبة للمسلمين في معركة ما.
في العادة تستعمل هذه السلطات الدين
كأيديولوجيا. وهذا ما كان سائدا في عصور سابقة في أوروبا، وقد عُرف ذلك بـ»الحكم
المطلق» إلى أن حدثت ثورات عديدة في دول أوروبية لعل أهمها الثورة الفرنسية، فبدأت
المناداة وتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة، لكن للأسف فإن دولا كثيرة في حاضرنا لم
تحسم بعد هذه القضية وتفصل بين الروحي والأيديولوجي السياسي، حيث ما زال يبرز
«الزعماء الروحيون» الذين يستمدون الحكمة من الدين. يجب أن لا يغيّب عنا الدور
الآخر للدين، وهو لاهوت التحرير المقاوم، خاصة في ثورتنا الفلسطينية الممتدة عبر
قرن زمني، إن من حيث تعبئة الجماهير وتثويرها، خاصة في هذه المرحلة، حيث يسعى
الأعداء إلى تصفية قضيتنا الفلسطينية بشكل نهائي في «صفقة القرن»، أسوة بتجربة
لاهوت التحرير اللاتينية، التي يمكنها تشكيل مثال لشعبنا وأمتنا
عن صحيفة "القدس العربي"