لا يمكن فهم فتنة "
حموبيكا وإخوانه" بعيداً عن نظرية المؤامرة، التي لا أحب التوسع في استدعائها، لا سيما بعد أن جرى ابتذالها لشل العقل عن تفسير الكثير من الأحداث التي لا ترتبط بها!
تبدأ المؤامرة بمحاولة إلهاء الشعب عن المشكلات التي تواجهه، والتي تعجز السلطة عن حلها، وهي التي فشلت في البر والبحر. ومع أن الحاكم العسكري تلقى دعما خارجياً غير مسبوق في التاريخ
المصري، إلا أنه لم يحقق إنجازاً يُذكر في أي مجال!
ولا تنتهي المؤامرة بمحاولة أهل الحكم افساد
الذوق العام، وإذا كان اللون المنحط من الفنون معروف على مدى التاريخ، فإن الجديد هو أن هذا الانحطاط لا تقوم عليه شركات إنتاج خاصة، تهدف للربح السريع، أو أشخاص يفتقدون للموهبة فيبحثون عن الشهرة بمخاطبة عواطف العامة. فما يحدث الآن هو أن النظام الذي احتكر مجال الفنون ضمن احتكاره لكل شيء في مصر، هو من يرعى هذا الهبوط بالذوق العام ويروج له. وقد لا يكون للأمر علاقة بمحاولة الإفساد، بقدر التعبير عن "الذوق الفاسد"، وقد يكون الأمران معا.
إن سياسة الإلهاء معروفة بالأنظمة المستبدة، لا سيما عند اشتداد الأزمات، وقد حدث في نهاية التسعينيات، وفي حكومة الدكتور كمال الجنزوري، عندما تم الإعلان عن القبض على شبكة من الفنانات، قيل إنهن يمارسن الأعمال المنافية للآداب بتسعيرة خاصة مع خليجيين (لزوم الإثارة)، وتم النشر في وسائل الإعلام على أوسع نطاق، لأن الشبكة تضم أسماء كبيرة، لنتبين بعد ذلك أنه لم يتم القبض عليهن في حالة تلبس، كما أن معظمهن أخذن من بيوتهن على طريقة الاستدعاء، دون إثبات وجود "الطرف الثاني"، وممثلة وربما أكثر تم إلقاء القبض عليها من الشارع!
وإذ تم الإعلان عن أن هناك تسجيلات تمثل دليلاً على ممارسة الفاحشة بأجر، فكان اللافت أنه لا توجد كلمات صريحة، ولكن الأمر تم على طريقة "فك الشفرة"، فتقول إحداهن إنها اشترت بلوزة من المحل الفلاني، فيفهم منه أنها ستلتقي بـ"الزبون" أمام هذا المحل، وتقول أخرى إنها تحتاج قرضا فيكون هذا هو شفرة التعامل مع الزبائن، دون أن يلقى القبض على "زبون" واحد، فقد كان الهدف هو الإلهاء بالإثارة، ولو كان في هذا خراب للبيوت، وخوض في الأعراض، وإساءة للفن!
الجنزوري يعترف:
لقد اعترف رئيس الوزراء في اجتماع برؤساء تحرير الصحف، بأنه تأكد بنفسه أنها قضية ملفقة، وأنه خاطب النائب العام للإفراج عن الفنانات، وهو ما حدث فعلاً بعد أن كانت النيابة العامة، قد أصدرت قرارات بحبسهن على ذمة القضية، لتحفظ بعد ذلك!
وإذ بدا رئيس الحكومة وكأنه آخر من يعلم، فإنه ليس شرطاً أن تكون قضايا الإلهاء تم الاتفاق على تفاصيلها مع رأس السلطة، فيكفي أن تستشعر جهات الاختصاص بالحاجة إلى إلهاء الناس بعيدا، ليكون هذا مبرراً لتنفيذ الخطة، ولأنها سيناريوهات دائماً من النوع الرديء، فيكفي أنها تؤدي الهدف في فترة معينة، ولو سينتهي أثرها سريعاً.
إن العودة إلى بداية فتنة "حموبيكا" ورفاقه، تكشف عمن يقف وراءها، وإن بدا وكأنها ليست هي بالقرارات التي صدرت من النقابة المختصة، بالمنع وإلغاء التراخيص والوقف عن العمل، فمثل هذه القرارات صدرت لمزيد من الحرائق!
البداية كانت بحفل ضخم نظمته شركة تتبع للأجهزة الأمنية، في استاد القاهرة الذي يمنع منذ سنوات عديدة من استقبال جمهور المشجعين لكرة القدم، وهو المجال الحيوي للملاعب التي لم تشيد كقاعات للأفراح أو لإقامة المهرجانات الغنائية!
ثم إن المهرجان الغنائي قامت ببثه قناة فضائية معروفة بالاسم وبالرسم أنها قناة المخابرات "دي إم سي"، المملوكة لذات الشركة المنظمة للحفل، والتي تديرها الوزيرة السابقة وحرم محافظ البنك المركزي. ولا يوجد من يجادل في المالك الحقيقي للشركة والقناة، فحتى من يعملون في الأخيرة يقولون في التعريف إنهم يعملون في قناة المخابرات، وإن كنت أعتقد أن هذا تبسيطا للأمر، فالملكية الحقيقية هي لرأس السلطة في البلاد!
وهو حفل استضاف "مطربي الشوارع"، الذين لا يمكن أن يدعو لمهرجان كهذا نظمته الشركة الأمنية وقناتها احتفالا بأعياد الحب، ولا يمكن أبداً أن ينقل هذا الغثاء الرث عبر الأثير!
وكأنها شركة السبكي:
وبدلاً من أن يكون هذا الاسفاف مدخلا لمحاسبة سلطة تعمل على "افساد الذوق العام"، تم فتح النار ضد الفنانين المشاركين وغيرهم ممن يعرفوا بفناني المهرجانات، ليتحرك نقيب الموسيقيين السلطوي هاني شاكر، ويقرر سحب ترخيص النقابة الممنوح لأحدهم، ويخاطب الأماكن السياحية بقرار النقابة بعدم التعامل مع هؤلاء المطربين، وكأن من نظم حفل استاد القاهرة، وسمح بدخول هذا العدد الضخم من المشاركين، هي شركة السبكي للمقاولات الفنية!
فاذا كانت هناك جريمة قد وقعت، فلماذا يقتصر الحساب على عموم مطربي الشوارع، دون أن يمتد الأثر للشركة التي نظمت والقناة التي أذاعت؟!
وإذا كان التحرك النقابي والإعلامي هو ضد الإسفاف الذي ورد في أحد الأغاني، فلماذا لم يقدم المتهم للنيابة؟ وما ارتكبه من التحريض على شرب الخمور والمخدرات يعاقب عليه القانون، ولا يجوز أن تظهر الدولة ضعيفة، فلا يوجد أمامها من سبيل لمواجهة هؤلاء إلا قرارات تصدر من النقابة، تتحداها غرفة السياحة بالقول إن النقابة تدخلت فيما لا يعنيها!
عندي كلام كثير، كتبته في مناسبات قديمة عن قوانين النقابات الفنية وحدود اختصاصها، ليس ضروريا أن نعيده من جديد، فالمشهد ليس جاداً ولكنه مفتعل، لزيادة اشتعال الحرائق، والنفخ في الحبة لتكون قبة، والإمساك في هؤلاء المعنيون، وتجاهل الفاعل الأصلي، وهي شركة إعلام المصريين، وقناة "دي إم سي" التي يريد النظام العسكري أن يفرضها بديلا للتلفزيون المصري وقد عثر على الممول في أبي ظبي، وهو الراعي الإماراتي للسلطة المصرية.
لقد قال مطرب المخدرات إنه عندما استدعي للغناء في استاد القاهرة، حذف وصاحبه مقطع الترويج للحشيش، لكنه فوجئ بالجهة المنظمة للحفل تضع الأغنية بما فيها من مخاطر.. فمن صنع المشكلة؟! ولماذا تم الالتفاف عن هذا القول ولم يتم التحقيق فيه ومحاسبة المسؤول عنه؟!
حكاية محمد رمضان:
لقد بدت الحملة كما لو كانت تستهدف أيضا
الممثل محمد رمضان، وفي مواجهتها بدا هو متحديا لها في الكثير من الممارسات، إلى درجة التجمهر في أحد الشوارع الرئيسية تحديا لنائب ذكره بما يكره، فهل تسمح السلطات بالتجمهر في الشوارع، وهي التي تطارد أي تجمع بشري ولو على المقاهي! فمن المسؤول عن هذه الفوضى؟!
إن السلطة الحاكمة هي التي تتبنى هذا الممثل، وتعطي له مساحة لم ينلها أحد من قبل، لتقديمه على أنه النموذج، وأنه القدوة، وأنها قادرة على صناعة النجوم، فيحكموا على عادل إمام بأن يلزم بيته، ويعطوا الفرصة لمحمد رمضان، بعد أن احتكر النظام العسكري الدراما، وهو الذي يحمي هذا الابتذال!
وهذا يقودنا إلى ما بدأنا به هذا المقال، فنحن أمام مشكلة "ذوق" لهذه السلطة غير مسبوق، بدأ أثره مبكراً، عندما وقع الاختيار قبل ثورة يناير على المطرب تامر حسني، ليحيي احتفالات نصر أكتوبر، وذلك بعد قضية شهيرة خاصة بتزويره مؤهله الدراسي، وتزويره شهادة بأداء الخدمة العسكرية، وتعرضه للمحاكمة العسكرية بسبب ذلك، فأي نموذج يريد العسكر أن يسود ويمثل قدوة للناشئة؟!
إن رعاية الحكم العسكري لمحمد رمضان، ليس تخمينا، وليس رجما بالغيب، فنحن نجده في الصفوف الأولى في مهرجانات السيسي السياسية، وفي غياب الممثلين الكبار، في حضور لا تخطئ العين دلالته!
فهل هذا هو ذوقهم الفني، أم هو جزء من المؤامرة؟
مهما يكن، فقد انتهت فتنة حموبيكا ورفاقه، ليصبح واجباً على السلطة أن تجيب على كثير من الأسئلة على رأسها: ماذا هي فاعلة في الفشل الحاصل في ملف سد النهضة؟!
أرجو ألا تتجاهل الإجابة على السؤال وتشعل فتنة جديدة.