بداية، المشهد الذي قدم فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مصطحباً إلى جانبه نتنياهو؛ كان هزلياً واستعراضياً وانتخابياً له ولنتنياهو، أكثر من أن يكون تقديماً لمشروع يحمل اسم "
صفقة القرن". فالمختصون بقراءة حركة الجسد وحركة العينين يجدون أمامهم رئيساً أمريكياً سوقياً، وهو يغمز بعينه تارة يسرة وتارة يمنة، كأنه في حانة وليس في البيت الأبيض، على الأقل من ناحية ما تتطلبه الرئاسة من هيبة ووقار. أما نتنياهو فكان مقلداً ومجارياً له، كأنه "كومبارس" رديء، يكاد يقول مع تهم الفساد التي تلاحقه: "خذوني". فهو فرح إلى درجة الطيش ودونالد ترامب يداعبه، كمن يقول له أرأيت كيف أنني صهيوني أكثر منك، أو كما يريدني أصحابك هنا.
المهم، منذ اللحظة الأولى يقول المشهد إن "صفقة القرن" هدية مقدمة لنتنياهو وللناخبين الأمريكيين المهووسين بدعم دولة صهيون.
وبالفعل، عندما تدقق بكل كلمة قالها دونالد ترامب في تقديمه لما يسمى، هزلياً بـ"صفقة القرن"، لا يمكن أن تشك في أن لها علاقة بتقديم حل للقضية الفلسطينية. فهي إعلان لسياسة أمريكية تحاول شرعنة كل ما فعله المشروع الصهيوني في فلسطين حتى اليوم، وذلك بعد تكريس الاغتصاب الصهيوني لفلسطين عام 1948/1949 بالاستيلاء على 78 في المئة وتهجير حوالي ثلثي الشعب الفلسطيني، أي دعم النص الصهيوني المزيف حول اعتبار فلسطين "أرض
إسرائيل" ووطنا تاريخيا لليهود، ومن ثم لا حق لمن تبقى من الفلسطينيين تحت دولتها عام 1948 في أي شيء، وهم أصحاب الأرض الأصليون والتاريخيون.
أما بالنسبة إلى القدس والضفة الغربية، فقد شرعن ترامب ضم القدس لدولة الكيان الصهيوني، واعتبارها العاصمة له، كما شرعن ضم الأغوار وكل ما قامت عليه المستوطنات، فضلاً عن اعتبار حق العودة ملغى وحلّه التوطين.
يظن البعض، كما حاول ترامب إيهامهم، أن ما تبقى من الأرض في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد نزع السلاح منه، يمكن أن تقوم عليها "دولة". ولكن حتى هذا الذي "تبقى" من أرض لم يُشر إليه بأنه من حق الفلسطينيين، وإنما أخضعه للتفاوض الثنائي المباشر. وقد نسي أو تناسى هؤلاء تجربة التفاوض المباشر على مدى عقدين بعد اتفاق أوسلو، وأنها كانت ستاراً، أو غطاءً، لاستمرار الاستيطان ومضاعفته. ولا تعني بأي شكل من الأشكال أن قادة الكيان الصهيوني من رابين وبيريز حتى نتنياهو؛ يقرون بأن ثمة أرضاً في فلسطين هي حق للشعب الفلسطيني، أو يمكن التخلي عنها عبر التفاوض.
فتجربة التفاوض سماها البعض عبثية، بمعنى أنها لم تخرج باتفاق يعطي أرضاً ودولة، فيما هي، في الحقيقة، ستار لاستيطان مزيد من الأرض وصولاً إلى ما عبّر عنه دونالد ترامب في مشروع "صفقة القرن" (فضيحة السياسة الأمريكية) من شرعنة المستوطنات وضم الأغوار والقدس والجولان تحت مظلة المفاوضات.
لهذا، فإن ما توهمته الأصوات العربية (مصر، السعودية، الإمارات، البحرين، عُمان، وغيرها، بشكل أو بآخر) بأن ثمة ما يمكن أن يُتفاوض عليه، أو بأن التفاوض المباشر يمكن أن يوصل إلى حتى دويلة هزيلة، هو غشٌ من قِبَل مَن يريد أن يجرّب المجرّب.
فما قدمه دونالد ترامب في خطابه كان كل فلسطين للكيان الصهيوني، ولكن على مرحلتين: المرحلة الأولى ابتلاع ما أعطى للكيان الصهيوني، وأكده نتنياهو في خطابه. والمرحلة الثانية أخذ الباقي تحت ستار المفاوضات المباشرة سواء أحصلت أم لم تحصل. فالباقي، إن كان في الضفة الغربية أم في ما أسماه نتنياهو "دولة المستقبل" من دون أن يوضح هويتها، سيبقى تحت الاحتلال والتوسع الاستيطاني، لأن ما تبقى اعتبر موضوعاً للتفاوض أي ثمة حق للمفاوض الصهيوني فيه، فنتيجته مرهونة بموافقته، تماماً كما حصل في مفاوضات اتفاق أوسلو.
ثم عندما يربط دونالد ترامب ونتنياهو المفاوضات حول "دولة المستقبل"بنزع السلاح من قطاع غزة، يكونان قد أضافا مُحالاً آخر إلى جانب مُحال آخر؛ وهو أن يخرج من المفاوضات غير استمرار الاستيطان والاحتلال.
فالمُحال المتعلق بنزع السلاح من قطاع غزة مرتبط بالمُحال الثاني، وهما يتعلقان بإجماع الشعب الفلسطيني في رفض ما سمي بـ"صفقة القرن" جملة وتفصيلاً، بل الانتقال إلى المواجهة والانتفاضة وتصعيد
المقاومة. فهذان المُحالان يعرفهما نتنياهو وترامب جيداً، لذلك يريدان تمرير ما أُعطي للكيان الصهيوني، والإعداد للصراع على ما تبقى، وقيل إنه للفلسطينيين. وهو أهزل من الهزال بنظر حتى الذين تنازلوا عن الثوابت، وقبلوا بحل الدولتين، ولكنه ثمين جداً لإكمال الاقتلاع الفلسطيني وإحلال الكيان الصهيوني على كل فلسطين.
ولهذا فإن ما نواجهه هو استمرار لحرب الوجود التي شنها ويشنها المشروع الصهيوني ومناصروه على الشعب الفلسطيني. ولا مجال لقراءتها إلاّ بهذه الصورة، ولا مجال لمواجهتها إلاّ كذلك.
على أن ميزان القوى العالمي والإقليمي والعربي الشعبي والفلسطيني يسمح بإفشال كل ما بيّت له دونالد ترامب ونتنياهو. ولا سيما إذا ما اندلعت انتفاضة شعبية شاملة في القدس والضفة الغربية مدعومة بوحدة فلسطينية، ومعززة بدعم الشعوب العربية والإسلامية، وأحرار العالم. فأمريكا لم تعد أمريكا، وقد زادت ضعفاً في عهد دونالد ترامب، والكيان الصهيوني لم يعد الكيان الصهيوني، وقد زاده نتنياهو فضائح وضعفاً. فما أظهراه من مسخرة وهما يقدمان مشروعهما في 29 كانون الثاني/ يناير 2020، يكشف عن هذا الضعف. ولولا تفاهة الذين شاركوا في الاحتفال أو ثمنوا المشروع، لما وجد من لا يدير له ظهراً.
المهم وُلِدَ هذا المشروع المسخ في مشهدية هزلية، ومصيره الفشل.