هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في سنة 1905، وصل إلى يافا شاب يهودي اسمه ناحوم فرنكل، مع زوجته غنسيا، هاربيْن من بيلاروسيا. وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى اضطرت الأسرة للذهاب لمصر، حتى نزلت في ميناء الإسكندرية بعد بداية الحرب.
كان ناحوم وأبناؤه الثلاثة هرشل وسالومون ودافيد، فنانين موهوبين. في مصر، أسسوا ورشة لصناعة الموبيليا "الأثاث" على الطريقة الصينية، وكان ذوقهم راقيا فنجحوا في بيع الكثير من قِطَعهم لصفوة القوم، حتى نجحوا في البيع للديوان الملكي في مصر، وهو حلم أصحاب الصنائع جميعا يومئذ.
لصناعة الموبيليا المصرية تاريخ طويل مع الفن اليدوي ومهارة الرسم على إطارات قطع الأثاث وأقمشتها. ولا يزال الكثيرون من صُنّاع الموبيليا المهرة في السوق المصري، يتميزون بموهبة ممتازة في الرسم، يطوّرونها خلال مسيرتهم، معتمدين على صقل المهارة بالرسم اليومي على قطع الأثاث بإطاراتها الضيقة، ثم التفنّن في تلوينها.
لكن أبناء فرنكل الثلاثة كانوا أشدّ نهما للفن من أن يكتفوا بالرسم على قطع الأثاث. كما لعب السياق التاريخي دورا مهما في توجيههم نحو إنتاج أفلام الكرتون.
ففي سنة 1930 وصلت أفلام ميكي ماوس الأمريكية إلى مصر، وكانت الشخصية الكرتونية الوليدة تشق طريقها نحو نجاح منقطع النظير في شتى أرجاء العالم، أغرى عددا من صنّاع الأفلام بابتكار توائم لميكي ماوس في دول مختلفة.
وكان السياق المصري أيضا يغلي بروح قومية جديدة، أجّجها النضال الوطني الطويل مع المحتل البريطاني، ومحاولات المثقفين والمفكرين المصريين، منذ العشرينيات، صياغة رؤية قومية تتأسس عليها الروح المصرية، وتأرجحت في تناولها لمكونات ثقافية وفكرية راسخة مثل اللغة العربية والدين الإسلامي؛ فكان ثمة فريق متطرف في رفض المكون التاريخي العربي، يسعى إلى استبعاد الأدب العربي القديم والدين الإسلامي من تكوين الشخصية المصرية، وكان ثمة فريق آخر يثمّن دور اللغة والدين في تكوين الشخصية المصرية.
الذي يهمنا من هذا الخلاف المعقد أن المصريين كانوا يحاولون البحث عن تصوّر ما عن أنفسهم وموقعهم من العالم. وكان رسّام الكاريكاتير الشهير صاروخان بدأ يرسم شخصية "المصري أفندي" في مجلة روز اليوسف، وقد ابتكر الشخصية سنة 1932 فأصبحت رمزا للمواطن المصري وتدافع عن أحلامه وتشكو همومه.
ومن الطريف أن صاروخان اعتمد في شخصيته على تحوير شخصية كاريكاتيرية وردت في الديلي إكسبريس الإنجليزية، لرجل الشارع العادي أيضا، فكان يرتدي قبعة ويمسك مظلة، فاستبدل بها صاروخان طربوشا وسبحة ليمصّر بذلك شخصيته، التي لعبت دورا سياسيا محوريا في الصحافة المصرية وقتها.
وهي الشخصية التي استلهمها آل فرنكل في شخصية مشمش أفندي أيضا.
ويبدو ملفتا اختيار هذا الاسم، وسببه أن فرنكل الأب حين قرر هو وأبناؤه تغيير عملهم بالاتجاه للسينما والكرتون، طلب فرنكل من طلعت حرب تمويلا لإنشاء استوديو التحريك فرفض الأخير قائلا العبارة المصرية الشهيرة: "في المشمش"، فاختاروا الاسم لبطلهم الكرتوني الجديد.
وعلى خطى والت ديزني، ابتكر آل فرنكل شخصية "بهية"، نظيرةً لميمي ماوس حبيبة ميكي ماوس. لكن من الملفت أن آل فرنكل اختاروا أن يكون مشمش أفندي إنسانا وليس فأرا قريب الشبه من الإنسان، ربما لأنهم قدّروا أن الذوق الفني المصري وقتها لن يتقبل شخصية الفأر كبطل لأي فيلم، أو لارتباطهم بشعبية "المصري أفندي"، ولعل هذا هو الأرجح.
واعتمد آل فرانكل على أنفسهم فوزّعوا الأدوار فيما بينهم: كان الأب يجهّز الأحبار والألوان المستخدمة في الرسم (الذي كان ثنائي الأبعاد)، بينما تولّى ديفيد مسؤولية رسم الشخصيات والديكور وتحديد زوايا التصوير ورسم المشاهد، التي يحبِّرُها (يلوّنها) هرشل. كما تخصص سالومون في الجانب التقني: التصوير والإضاءة وإعداد المؤثرات الصوتية والمونتاج.
من الناحية التقنية اعتمد آل فرنكل على قوانين التحريك الكارتوني التي ابتدعتها صناعة الكرتون الأمريكية، وعلى رأسها استوديوهات ديزني، حيث تستمر الأشياء المتحركة في حركتها حتى بعد توقّفها، وتبالغ في حركة امتدادها وانكماشها، وتنال الجمادات حياة خاصة بها وفق قوانينها... ربما يُؤخذ على أسرة فرنكل الاستغراق في استنطاق ملامح عالم ديزني، لكن بلهجة مصرية. كما أن المؤثرات الصوتية لم تكن توافق الحركة تماما في بعض الأحيان. وهذه مشكلات طبيعية في تجارب أفلام الكرتون الأولى.
من المهم أن نضع في الاعتبار حداثة التجربة وما سبقها من محاولات، فقد اخترعت أسرة فرنكل آلة لعرض الصور لقطة بعد لقطة. ومنذ سنة 1935 بدأوا العمل على شخصية كرتونية لم تنل حظا من الشهرة، هي شخصية القرد ماركو، استفادوا منها في تصوير لقطات طويلة ومعالجتها فنيا ليتمكنوا بعدها من صنع أفلام كرتون كاملة. وقد أطلقت الأسرة على الاستوديو الخاص بها اسم "Frenkel Animated Pictures".
وفي يوم 8 شباط/ فبراير 1936، في قاعة سينما كوزمو بالقاهرة، عُرِض فيلم "مفيش فايده" أول أفلام مشمش أفندي، وأول فيلم كرتون في تاريخ مصر. كانت مدته 15 دقيقة، لكن الجمهور فاجأ الجميع بحفاوة بالغة بالفيلم، وهو ما يدل على رقيّ الخيال المصري وقتها، فلم يرفض الفيلم لمجرد أنه فيلم كرتون يراه الجمهور للمرة الأولى.
مدفوعا بنجاحه الجماهيري، استمر عرضه ثلاث سنوات كاملة في السينما، ليكون فاتحة سلسلة من أفلام عائلة ترنكل، بلغت 30 فيلما، بعضها طلبته الحكومة المصرية بنفسها من أسرة ترنكل، وهو ما يدلّ أيضا على مدى نجاح مشمش أفندي في فرض نفوذه على السينما المصرية.
ففي السنة التالية، 1937، كلَّفت وزارة الزراعة أسرة ترنكل بإنتاج فيلم من بطولة مشمش أفندي لتوعية الفلاحين المصريين بوسائل مكافحة طفيليات القطن، بعد أن باتت تشكّل خطرا على المحصول المصري الذي طالما ظل من محاصيلها الاستراتيجية الفارقة.
وكالعادة تفسد السياسة كثيرا من ألق الفن. ففي سنة 1939، بينما تدق طبول الحرب العالمية الثانية، طلبت وزارة الحربية المصرية من أسرة فرنكل إنتاج فيلم "الدفاع الوطني" لدعم تسليح الجيش المصري عبر تمويل قرض مالي. هكذا ينضم مشمش افتدي للجيش المصري ليقاتل في صف الحلفاء ضد دول المحور، وهي الحرب التي لم تشارك فيها مصر إلا بجنديّها مشمش أفندي، ثم بالفرجة على الجيوش المحتلة بينما تقتتل على أراضيها، حتى تشارك بريطانيا وفرنسا المنتصرتان، مع إسرائيل، في العدوان الثلاثي على مصر.
لكنّ السياسة تمضي في عبثها القاسي، ودون اعتبارٍ للمساهمات الوطنية لأسرة ترنكل، تعقّد الموقف كثيرا بعد حرب فلسطين سنة 1948، ورغم دعم مشمش أفندي لجيوش الحلفاء، منحت بريطانيا فلسطين لإسرائيل، موجّهةً طعنة دامية للجيوش العربية التي انهزمت دفاعا عن فلسطين. أدّى ذلك إلى أزمة كبرى للجاليات اليهودية التي كانت تعيش في مصر، مع تدهور علاقاتهم الاجتماعية بالمصريين والعرب عموما، بسبب الاحتلال الصهيوني.
مرة أخرى، تضطر أسرة فرنكل للهجرة إلى فرنسا، حيث استمروا في إنتاج أفلام مشمش أفندي، الذي خلع طربوشه المصري وعاد "خواجة" مرة أخرى. أبدعت أسرة فرنكل شخصيات كرتونية أخرى واستمرت في الإنتاج حتى توقفت سنة 1964.
وأخيرا، نال سالومون ترنكل تكريما متأخرا سنة 1996، من مهرجان السينما العربية في باريس، الذي حضره كضيف شرف تقديرا لإدخاله، مع أسرته، فن التحريك إلى مصر والعالم العربي. وكان في الخامسة والثمانين من العمر.