كلف الرئيس قيس سعيد؛ إلياس الفخفاخ لترؤس الحكومة وتشكيلها، وهو الوزير في حكومتي الترويكا سنتي 2012-2013، سليل العائلة الاجتماعية الديمقراطية. وأعلن رئيس الحكومة المكلف بوضوح أن
الحزام السياسي للحكومة هي القوى التي ساندت في الدور الثاني بكثافة الرئيس قيس سعيد، بما يعني استثناء "قلب
تونس" (الذي تتعلق برئيسه اتهامات فساد) و"الدستوري الحر" (الاستئصالي)، وأن رسالة الانتخابات الساحقة هي الدفاع عن قيم مكافحة الفساد.
لم يكن إلياس الفخفاخ مرشح حركة
النهضة وحزب قلب تونس اللذين توافقا على مرشحين آخرين (فاضل عبد الكافي ورضا بن مصباح). كان
تصور حركة النهضة وتحديدا رئيسها الشيخ راشد الغنوشي، لموضوع "التوافق" قائما على تكتيك عزل المجموعات الاستئصالية في المنظومة القديمة، ولكن أيضا بين أوساط الصف الحداثي. نجح إلى حد ما في تقسيم خصومه، لكن في المحصلة لم تحقق منظومة الحكم وهذه الفلسلفة أي إنجازات للناس. وهو ما أدى إلى صعود قوى "جديدة" في انتخابات 2019، وتقلص دور وشعبية النخبة السياسية التي سادت منذ 2011. ورغم ذلك أعتقد أنه لم يدرك جيدا رسالة ما حصل، وعاد للتمسك بتجديد صفقة التوافق الشكلي، لكن الآن ليس مع أحد الرموز التاريخية للمنظومة، بل مع نبيل القروي الذي تتعلق به شبهات كبيرة بالفساد وضرب الأمن القومي.
أليس أفضل تكتيك لعزل القوى الاستئصالية والمعادية للديمقراطية هو بالأساس تأدية الأمانة والإصلاح؟
تمر البلاد أمام مفترق تاريخي تتنازعها فيه اتجاهات متباينة بل حتى التناقض، وأصبح مقود الاتجاه التاريخي لبلادنا أساسا وخاصة في أيدي الرئيس قيس سعيد. هناك من يريد أن يعيدنا إلى محطة "توافق" شكلي يسمح بـ"تعايش" مصلحي متبادل بدون أفق إصلاحي، وآخرون يذهبون إلى أفق "صدامي" راديكالي يخوض منازلة مفتوحة مع "السيستام" بكافة مكوناته، وأفق ثالث لنسميه "إصلاحيا" بالمعنى الإيجابي يفتح الملفات ويحقق مكاسب بدون صدام "وجودي" مع المنظومة.
اسم رئيس الحكومة وهويته وخلفيته سيحدد أيّا من الاتجاهات التي ستذهب إليها البلاد، وكل ذلك سيحدده الرئيس. وبمعنى آخر، نحن عمليا وأساسا أمام وضع يمكن أن يفرز عمليا نهاية مرحلة وبداية أخرى، وحيث الرئيس عمليا هو قائد السفينة بدون شريك أساسي. وفي كل الحالتين نحن إزاء صراع بين مقولتين، مقولة الرئيس أن البلاد "أمانة"، ويجب فعل ما يجب فعله لمصلحتها حتى لو اقتضى الأمر إجراءات راديكالية، ومقولة "التوافق" التي صاغتها "منظومة الشيخين"، مع إضافة نبيل القروي كبديل عن الراحل قائد السبسي.
كان رئيس الحركة يعتبر سقوط الجملي عودة المقود إليه. وكان من الواضح أن كلمة سر فيما بعد الجملي هي "العودة إلى التوافق". وعلى هذا الأساس حصل جهد، اخترت أن أكون فيه، من أجل استباق ذلك بطرح فكرة رئيس حكومة لا يتم اختياره من الثنائي الشيخ/القروي، بل من حزام فيه الشيخ والتيار والرئيس ومن ثم بقية الأطراف الأربعة التي توقفت المفاوضات بينها فيما بعد. وعليه، حصل لقاء أمين عام التيار محمد عبو مع الشيخ يوم 13 كانون الثاني/ يناير الماضي. وأوضح النقاش أننا إزاء تصورين لـ"التوافق"؛ التوافق كما كان ماضيا، أي الشكلي غير القادر على الأداء والإصلاح، ويتمركز فقط حول مصلحة متبادلة، النهضة وهاجسها في محاصرة "الاستئصال" و"عزله" (أي خاصة عبير موسي) والتموقع أكثر في الدولة، مقابل هاجس نبيل القروي في ردم الملف القضائي والتطبيع مع المشهد السياسي وتزعم "العائلة العصرية.. إلخ". في المقابل تم طرح تصور آخر لـ"لتوافق" يدور حول اختراق المنظومة في مستوى "تحيا تونس"، ربما لاحقا بعض
أوساط "قلب تونس"، لكن اختيار رئيس الحكومة، القطعة المفتاح، يجب أن يبقى ضمن مسار الإصلاح الجدي. وتم التأكيد على الشيخ أن "محاصرة وعزل الاستئصال" يكون بالقيام بإصلاحات وتقديم خدمات للناس وتحقيق مصالحهم، فذلك هو الترياق الأنجع ضد أمثال موسى.
يردد قياديون في حركة النهضة منذ فترة جملة مفتاح مفادها أن "النهضة العمود الفقري للبلاد". وبمعزل عن واقعية هذا التوصيف، فإنها قامت بكل الخطوات التي لا تساعد أن تقربها حتى من هذا المعنى. من الواضح أن فوبيا الاستئصال والخوف من المنظومة القديمة والتطبيع معها لم تقوي حركة النهضة بل أضعفتها، وجعلتها تخسر ناخبيها. وربما كل ذلك مبني على تقييم خاطئ لمحرلة "الترويكا". نعم لم تكن فترة موفقة، لكن مشكل تلك المرحلة لم يكن في صبغتها "الصورية"، بل إن تلك الصبغة كانت كلامية شكلية ولم تكن فعلية. مشكل "الترويكا" هو أنها لم تكن فترة إصلاحات جدية شجاعة في مكافحة الفساد والاقتصادي- الاجتماعي. نعم كان هناك خطاب حاد وتخويفي ضد المنظومة السابقة التي رغب بعضها في التاقلم مع الديمقراطية، ومن الضروري الاعتبار من هذا الدرس. لكن التوافق معها فحسب لن يحل المشكل، ما يحيلها إلى أن التوافق لا يجب أن يشترط سقفا سياسيا يعطل الإصلاح ويطبع الفساد.
هناك طريق ثالث بين الاستعراض الثورجي الكلامي والموافق الحدية، والتطبيع والتوافق الشكلي، وهو تأدية الأمانة والإصلاح. وتعيين إلياس الفخفاخ مسنودا برئيس يتمتع بشعبية استثنائية يمكن أن يكون منطلقا لذلك، وهو الأمر الذي يستوجب مراجعة رئيس حركة النهضة لرؤيته وتوجهه الاستراتيجي، إذ تبقى الحركة الجسم السياسي التنظيمي الأكبر. فمع إلياس الفخفاخ والتيار الديمقراطي وإلى حد ما حركة الشعب؛ تتشكل العائلة الديمقراطية الاجتماعية التي يمكن أن تمثل الجناح الحداثي الصلب الذي ترتكز عليه الإصلاحات الكبرى.