الخاسرون من الديمقراطية في تونس يقفون وراء المتمرد حفتر ويدعمونه بالإعلام والمواقف وتأليب الرأي العام الداخلي، ويتخفون وراء حديث مبهم عن المصلحة الوطنية التونسية، ويتذرعون بحياد دبلوماسي ينسبونه إلى صميم سياسة بورقيبة الخارجية التي عملت دوما حسب مبدأ صفر مشاكل. والحقيقة أن الموقف الباطن انحياز مطلق لمحور حفتر وداعميه ضد الديمقراطية التي تتقدم في هشيمهم السياسي، وتسمح في الأثناء بمكان معتبر لعدوهم الحقيقي، تيار الإسلام السياسي، في كل قطر نظمت فيه انتخابات شفافة ونزيهة.
من هم طابور حفتر التونسي؟
هم أحزاب سياسية وشخصيات إعلامية تعيش داخل ديمقراطية تمثيلية، وتتمتع بحرية مطلقة في كل المجالات الإعلامية والنشر والعمل السياسي، وتقول بأن هذه مكاسب دفع فيها التونسيون ثمنا غاليا. ونسمي منهم التيار القومي العربي بكل فصائله ومسمياته وهي كثيرة (والطريف أنها تيارات تعمل على توحيد الأمة العربية في كيان سياسي واحد وتعجز عن التوحد في تونس في كيان سياسي موحد وجامع). وإليهم نضيف حزيبات ليبرالية من صنائع الاستعمار الفرنسي، مثل حزب آفاق (المندثر في آخر انتخابات تشريعية) وحزب المشروع الذي نعرف رئيسه ومقره فقط، وحزب فلول ابن علي الذي تقوده عبير موسي التي ترفض مصافحة زميلتها الإسلامية في البرلمان منادية بالثأر لابن علي. وطبعا يقف وراء هؤلاء ويدعم موقفهم النقابة العتيدة ذات المواقف المنادية بتحرير فلسطين.
يظهر هؤلاء جميعهم اختلافا في إدارة الشأن السياسي الداخلي في تونس، فيرفضون التحالف العلني في البرلمان لجهة تدعيم العمل الحزبي الديمقراطي، لكنهم يلتقون في موقف مشترك من حزب الإسلام السياسي (النهضة). وهذا اللقاء يترجم بمساندة حفتر في حربه ضد الحكومة الشرعية في طرابلس بدعوى أنها حكومة الإخوان.
يظهر هؤلاء جميعهم اختلافا في إدارة الشأن السياسي الداخلي في تونس، فيرفضون التحالف العلني في البرلمان لجهة تدعيم العمل الحزبي الديمقراطي، لكنهم يلتقون في موقف مشترك من حزب الإسلام السياسي (النهضة). وهذا اللقاء يترجم بمساندة حفتر
حفتر زعيم (ليست نكتة)
يقدم طابور حفتر صورة مثالية لحفتر، فهو رجل تقدمي معاد للرجعية الدينية. وهو زعيم قومي عربي يكافح من أجل وحدة الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة، وممانع فذ يقف في صف الممانعة. ولذلك يجد التقدميون فيه زعميهم، ويجد القوميون فيه قائدهم وريث القذافي وناصر وصدام حسين وحافظ الأسد. لكن الإشكال المربك: كيف يخفي هؤلاء جميعهم فرق المرتزقة الدوليين الذين يحارب بهم؟ وكيف يخفي هؤلاء مقاتلة المداخلة الذين يفتون له بقتل المرتد، حيث أن كل من ليس مع حفتر (ولي الأمر الشرعي واجب الطاعة) مرتد وجب عليه حد الردة؟
هذه التناقضات تختفي في الإعلام التونسي الذي يكشف فقط أن حكومة طرابلس منخرطة في لعبة محاور دولية تقودها قطر وتركيا من أجل التمكين للأمريكان في المنطقة، وذلك ضمن تحالف أمريكي إخواني بدأ
بالربيع العربي (عفوا العبري) وامتد على طول المنطقة، وما معارك حفتر ضد طرابلس إلا فصل من معركة تحرر من الأمريكان وأذنابهم من الإخوان الذين يريدون الاستيلاء على خيرات
ليبيا. إنه يواصل معارك العقيد المظفرة هو فقط مختلف قليلا لأنه يسرح شعره ولا يقول طز..
ولا ندري ما إذا كان مروجو هذه القصة يصدقون ما يقولون أم يقبضون منه زرقا حسنا، ولكنها حقيقة قائمة فعلا توجد عقول تونسية تروج لهذا وتريد أن تدفع تونس للوقوف مع حفتر ومحوره، وتتكلم في ذات الوقت عن رفض إدخال تونس في محاور سياسية وعسكرية باسم الحياد الدبلوماسي. وقد أسفروا عن وجوههم في مناسبات كثيرة، وآخرها
زيارة الرئيس التركي لتونس ولقائه مع الرئيس قيس سعيد، حيث كان الملف الليبي موضوع محادثات قبل مؤتمر برلين. لقد كان استقبال الرئيس التركي في حد ذاته جريمة قُرّع من أجلها الرئيس تقريعا، ولأنه لم يعلن موقفا معاديا لتركيا فقد اتهم بموالاتها والتذيّل لموقفها السياسي في ليبيا.
حقيقة قائمة فعلا توجد عقول تونسية تروج لهذا وتريد أن تدفع تونس للوقوف مع حفتر ومحوره، وتتكلم في ذات الوقت عن رفض إدخال تونس في محاور سياسية وعسكرية باسم الحياد الدبلوماسي
المعركة التي ضيعت أمة
نحاول اجتناب النبش فيها، ولكنها تعود في كل واقعة وفي كل منعطف معركة ضد الإسلام السياسي في المنطقة العربية. عمرها من عمر الدولة العربية الحديثة، وما حفتر ومحوره إلا فصل منها تجري وقائعه على الأرض الليبيبة.
وراء الزعيم حفتر يتجمع الآن
اليسار العربي (والتونسي جزء منه) بنقاباته وفلول الأنظمة التي أسقطتها ثورات الشعوب (من فلول ابن علي إلى عسكر مصر) والتيارات القومية التي تفوق أسماء تنظيماتها عدد المنخرطين فيها، والرجعيات العربية التي طالما حُشرت في خانة الخونة والعملاء الرجعيين من أجل منع احتمال التقاء سياسي بين دولة ليبية فيها الإخوان أو يقودونها وتونس التي يحاصَر فيها حزب النهضة الإسلامي. وربما يمتد حلفهم ضمن الديمقراطية إلى الجزائر والمغرب، حيث يحظى الإسلاميون بشعبية يثبتها الصندوق الانتخابي كلما فُتح.
هذا الاحتمال معناه نهاية كل خطاب وكل تنظيم يساري أو قومي يعرف أصحابه أنهم يموتون بالصندوق دون الحاجة إلى قتال. وقد بدأت المؤشرات في تونس، حيث لم يبق من اليسار إلا أسماء تنظيماته، بينما بقي الإسلاميون في موقع متقدم للقيادة.
هذا الاحتمال معناه نهاية كل خطاب وكل تنظيم يساري أو قومي يعرف أصحابه أنهم يموتون بالصندوق دون الحاجة إلى قتال. وقد بدأت المؤشرات في تونس، حيث لم يبق من اليسار إلا أسماء تنظيماته
إن حفتر بمقاتليه من الجنجويد والمداخلة ومرتزقة روسيا وفرنسا يمثل خشبة نجاة أخيرة لهذه التنظيمات، ولهذا الفكر الذي يعيش داخل ديمقراطية ويرفض أن يراها تمتد إلى غيره من الشعوب. إنه يساند مجرما معاديا للديمقراطية ويستعمل (للمفارقة) أدوات الديمقراطية من داخلها، بما يكشف زيف ادعائه بالديمقراطية، فهي حلال للتونسيين حرام على الليبيين والسوريين والمصريين واليمنيين (بالمناسبة لم نلتقط أي بيان من هؤلاء يساند ثورة الشعب العراقي ضد الهيمنة الإيرانية على مقدرات العراق، بل قرأنا ما يفيد الوقوف ضد الشارع اللبناني المطالب بإنهاء الطائفية السياسية لأنه يكشف ظهر المقاومة).
إنها خريطة تكشف أن الخاسرين أمام الديمقراطية يرتكبون أكبر الفضاعات السياسية باسمها ولكن ذلك مؤشر طيب على المدى المتوسط والبعيد. فالجمهور يبدو أعقل من هؤلاء، ولذلك عند الحديث عن الزعيم حفتر نسمع في المقاهي ضحكة ساخرة قبل مواصلة لعب الورق أو مص الأرجيلة.
الديمقراطية التي سمحت للبعض بمساندة حفتر الزعيم هي نفسها التي مكنت الجمهور المجهول من السخرية منه ومنهم، وهي التي تترك صندوق الاقتراع مفتوحا لإنهاء معركة طالت حتى ضيعت أمة وثورة وقضية.
ذلك الجمهور المجهول يخرج في ليبيا ضد حفتر ويمنعه عن طرابلس وسيخرجه من ليبيا، طال الزمان أو قصر. ذلك الجمهور المجهول يواصل السخرية السوداء من طابوره في تونس، ويحوّل قنوات التلفزة في المقاهي إلى متابعة كرة القدم.
معركة اليسار والقوميين ضد الإخوان لم تعد معركة الشعوب العربية، وآخر مقاتلها هو المرتزق خليفة حفتر، وكفى بها هزيمة مذلة، فنحن نراه يولي مدبرا أما طابوره التونسي، فقد قتله الصندوق بعد.