"
الانتحار ظاهرة عالمية"، "
مصر بها أقل معدلات الانتحار في العالم"، "أوروبا تحتل المرتبة الأولى"، "الانتحار لأسباب شخصية لا دخل للدولة بها". هذه العناوين وغيرها حملتها برامج التوك شو في الفضائيات المصرية تعليقا على ظاهرة الانتحار، والأعداد غير المسبوقة في هذا الخضم خلال أسبوع واحد بداية من مهندس برج القاهرة، وآخرين يلقون بأنفسهم تحت عجلات المترو، أو بتعاطي نوع من السموم يقضي على حياتهم في الحال. ويحيل النائب العام المصري الذي من المفترض أنه محام للشعب، قضية الشاب المنتحر للتحقيق في تسريب فيديو الانتحار، وليس في أسبابه والدوافع التي أجبرته على هذا الفعل بكل إصرار، في الوقت الذي يتمسك الشعب المصري بالقيم الدينية الكبري ويحتكم إليها بنسبة عالية، وكذلك قيم الحلال والحرام تحكم الكثيرين على الأقل في كبائر الذنوب كالانتحار مثلا، وقيم مثل الرضا بالقليل، بعد أن تربي عليها المصري من خلال التعرض للفضائيات الدينية التي قامت بغرسها في صدور البسطاء، مستغلة الفطرة المجتمعية التي تقدس تعاليم الدين وتجل علماءه لتغير المفاهيم وتزيف مضمونها، ولتقدمه بشكل لاهوتي مفرغ من قيم القوة وعدم الرضا بالخنوع وعدم قبول المذلة ومحاربة الفساد، فيتم إرجاع ظاهرة الفقر والبلاء لفعل الناس من ذنوب ومعاص، وليس لظلم الحكام واستبدادهم وفسادهم.
وقد تم بالفعل تغيير عقيدة الملايين من هؤلاء الذين اختصروا أحلامهم في الجنة وما عند الله، وتركوا حقوقهم وحقوق أبنائهم وأحفادهم في يد السلطان يتلاعب بها كيف شاء، ولم تعرف الثقافة الجمعية المصرية أن الانتحار ظاهرة، إلا في تلك الحقبة السوداء والمحنة التي يمر بها الوطن.
لقد عانت مصر طويلا من فكرة الحاكم المطلق، الذي يتحول بين عشية وضحاها من مستجد للشعب أن ينتخبوه، إلى إله يأمر ويتحكم ويتوعد ويفسد ويطارد، بل ويقتل من يقترب من كرسي الحكم ولو بانتقاد، فزاد القهر، وكُممت الأفواه، وبلغت القلوب الحناجر، وعجز الناس عن دفع الظلم عن أنفسهم، بل عجزوا عن مجرد البوح به.
الاستبداد أصل كل بلاء
في الأسبوع الماضي صرح موقع فيتو التابع لمنظمة الصحة العالمية أن أهم أسباب الانتحار في مصر هو الاستبداد.
لا توجد على مستوى العالم دولة تفعل بشبابها ومستقبلها ما يفعله النظام المصري في حق أبناء تلك البلاد، ليس الفاشلون والكسالى منهم، وإنما الناجحون والمبدعون ومن يستطيعون إنقاذه من براثن الفساد المتحكم بها. لا توجد دولة تعتقل الآلاف من العلماء، والآلاف من الطلاب، والآلاف من المبدعين، وتحرم المجتمع من عطائهم كما فعل النظام في مصر، النظام الذي حطم آمال الشعب في الحصول على حياة كريمة حين دبر ونفذ الجريمة الأكبر في تاريخ البلاد في عصرها الحديث وربما القديم، بالقضاء على أول تجربة ديمقراطية صنعها
الشباب بدمائهم وفرضوها على العالم، تجربة استطاعت أن تبعث الأمل في الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الحرة ببدء حقبة جديدة للعرب والمسلمين، لأنه من المؤكد تاريخيا أنه بصحوة مصر تقوى الأمة، وبقوة مصر تنهض الأمة، ولم يتمحور دور مصر حول نفسها أو يتقزم عبر تاريخها كله، إلا في تلك الفترة المشينة من حكم العسكر، ولم تشهد المنطقة انقلابا دمويا كالذي تمر به، ولم تفقد البلاد دورها الإقليمي وحده، بل صارت سجنا كبيرا لأبنائها كافة من الأطياف كافة، فلم يسلم من بطش النظام إسلامي أو ليبرالي أو علماني أو حتى عسكري.
أحكم النظام قبضته العسكرية على رقاب الجميع، فها هي عائشة الشاطر تصارع الموت لمجرد أنها ابنة المهندس خيرت الشاطر القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، وها هي الدكتورة بسمة رفعت تصارع الموت كذلك في قضية يستخف فيها النظام بعقول الداخل والخارج، وها هي إسراء عبد الفتاح العضو النشط في حركة تمرد التي أتت بالعسكر لحكم البلا،د لم تسلم من التعذيب والتنكيل لبعض التصريحات التي تستنكر فيها سير التوجه الاقتصادي في البلاد ومسألة
القمع والحريات، وها هي الحقوقية ماهينور المصري يتم الاعتداء عليها وخطفها، بينما تقوم بعملها المعتاد في الدفاع عن المظلومين، وها هو الرجل العسكري سامي عنان، والدكتور والمرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح، والدكتور الأكاديمي حازم حسني، غير عشرات الآلاف من المختطفين والمأسورين، لم يسلم أحد من القبضة الوحشية للنظام ليختتم المشهد العبثي في أكبر موجة للاعتداء على الصحفيين في العالم؛ دون جريرة إلا التنفس، ونقل الأخبار، وليس ممارسة النقد أو الانتقاد، فانتشر الإحباط بين الشباب، وفقدوا قدرتهم على الاستمرار بفقدانهم القدرة على العيش والحصول علي عمل مناسب يضمن لهم حياة كريمة، يتخرج الشاب من الجامعة دون أمل في أن الشهادة التي حصل عليها بتقديرات عالية سوف تفتح له مجالا لعمل، أو تجعل له مكانا في بلاده، دون أن يتم إحصاء أنفاسه عليه.
زاد الإحباط وزادت معه الاضطرابات النفسية مع الفقر المدقع واختفاء الطبقة المتوسطة من المجتمع، وتراكمت الديون على أغلبية الشعب، فمنهم من يئس من الحياة، ومنهم من عجز عن تكاليف زوج ابنته كحالة الانتحار بالأمس، ومنهم من تعرض لضغوط شديدة لاعتقال أخيه ووقوعه تحت التعذيب الوحشي، ومنهن من لم تملك ثمن وجبة اليوم لأبنائها فألقت بنفسها تحت قطار، ومنهن من لم تجد ثمن الدواء فضلا عن الطعام. لقد تحولت البلاد إلى عاصمة للكآبة، ومستقبل لا أمل فيه، وفساد تجذر حتى إنه لم يعد تحت سيطرة أحد، لا فرصة عمل متاحة، لا قيمة لعلم أو إبداع، لا وطن يمكن أن يستوعب أحلام بنيه، ولم يعد سبيل للخلاص أمام من ضاقت بهم السبل إلا الهروب.. الهروب إلى حيث لا رجعة، ولا وقوع تحت طائلة عذاب العجز والحاجة والضنك والعسكر مرة أخرى.
مصر تنتحر أم ينحرها الاستبداد؟
لم يعد هناك مجال للشك في أن ظاهرة الانتحار التي يندفع إليها اليائسون دفعا هي من صنع الاستبداد والفشل، وليس مرضا أو نقصا في الإيمان. إنه القهر القاتل، والظلم المستمر، والتعمد في فعل كل ما يصل بالمجتمع إلى الضيق والرضا بأقل القليل وبالمذلة، والأزمات الطاحنة المتوالية حتى لا يفكر أحد في أن يرفع رأسه أو يطالب ببعض حرية، بينما هو منغمس في البحث عن لقمة العيش التي لا يحصل عليها إلا بجهد مضاعف ومهانة لا تليق ببشر.
إن مصر قد أريد لها ما تمر به.. أن تتخلى عن القضايا الكبرى للعرب والمسلمين، وأن تفقد دورها الريادي وترضى بالتسول، وأن تكون نهبة لكل من يدفع الثمن؛ ثمن الآثار، وثمن التاريخ، وثمن الجُزر، وثمن الحقوق البحرية، وثمن سيناء التي لم يتوقف نزيفها يوما، وثمن جيشها الذي تحول لمنتج للسلع ومنافس لرجال الأعمال وتجار الخضار والفاكهة واللحوم والأسماك والدواء، وأخيرا الأثاث.. أريد بمصر هذا المستوى الرديء بالقضاء على أي أمل لدى شبابها في الحصول على حريتهم فيستكينون، أو يموتون في قطار، أو يموتون منتحرين بكل وسيلة، وقد صارت كل الطرق فيها تؤدي إلى الموت، فلم يعد فيها بريء، فالكل تطاله يد الطغيان.
إن مصر تُنحر على يد الحكم العسكري وبطشه، وتنحر بيد الانقلابي الذي ينفذ ما لم يستطيع أحد فعله من قبل في النيل من تلك البلاد.
وليس هناك سوى سبيل واحد للخلاص من هذا الطغيان، ووقف نزيف الدم، وإنقاذ مستقبل البلاد.. إلا أن ينتفض الشعب كله وجهة واحدة، ينبذون فيه كل خلافاتهم القديمة. فالمركب يغرق بالجميع، وعلى الجميع أن يأخذ على يد الظالم قبل فوات الأوان، إن الأمل الذي يريدون أن يطفئوه ما زال حيا في نفوس الأكثرية، ولم تستطع المحاولات الحثيثة على انتزاع فكرة الثورة من قلوب المصريين أن تنجح، ولم ينجح سيف الرعب في التمكن من قلوب الجميع بعد. ما زال هناك أمل في الخلاص من تلك الطغمة الفاسدة، وإنقاذ جيش البلاد ليعود لمهمته الأساسية في الدفاع عنها، وحماية حدودها. ما زال هناك أمل في الغليان المكبوت بالشعب الصابر في أن تحيل الأرض من تحته نارا، تحرق الخائن، ويزلزلها تحت أقدام جنود فرعون وهم قلة، بينما الشعب يمثل الغالبية العظمى، هو والمخلصون في هذه البلاد الطيبة. الأمل لن ينفد، وينتظر إشعال فتيل الثورة في قلوب الخلق، لتتحول من غضب صامت لانفجار لن يقف أمامه قوة مهما بلغت.
لا تظلموا المظلوم المنتحر، وإنما عاقبوا القاتل، وسيفعلها الشعب حتما وفي وقت قريب.. سينتزع المستبد، ويحرر بلاده بعز عزيز، أو بذل ذليل، ونراه قريبا.