على إثر تعليق ناقدٍ لـ"تطرف" الشيخ
الشعراوي، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بسجال حاد بين آراء مختلفة. الحبيب
الجفري (الصوفي ذو الحضور الواسع في المجال العام الديني المصري في السنوات
الأخيرة) دافع عن شيخه بقوله:
"إنا كفيناك المستهزئين". في نفس الوقت نشر موقع "مدى مصر" (المعروف
بخلفيته "
العلمانية) رسما كاريكاتوريا
يصور الشعراوي وكأنه صنم أقامته الدولة. بعض الشباب
الإسلاميين انتقدوا الهجوم
على الشعراوي بأنه هجوم مؤدلج على الإسلام نفسه، لا على الشعراوي بعينه، في حين
نشط بعض "الليبراليين" في نشر مقاطع للشعراوي يتحدث فيها عن "تحريم
الفن"، و"تحريم غسل الكلى"، وغيرها من المواضيع المثيرة للجدل.
جوهر
الانقسام
في الحقيقة، الانقسام الحاصل ليس انقساما على شخص
الشعراوي، على الأقل في معظمه. ذلك أن كثيرا ممن هم في الحقيقة مخالفون لنهج
الشعراوي (سواء "لمهادنته السياسية" أو لتصوفه) لم يجدوا غضاضة في نصرته
أمام نقاده هذه المرة، وإن كانوا هم أنفسهم لهم انتقاداتهم له. وكثير ممن هاجموا
الشعراوي، اعتبروه تمظهرا آخر كباقي التمظهرات الدينية "المتطرفة". في
النهاية، وعلى رغم التنوعات في كل معسكر، فإن هناك ما يوحد كلا منهما ضد الآخر.
إنها رؤيتهما للعالم، أي فلسفتهم ومعتقداتهم وتصوراتهم عن الإنسان والكون والحياة.
أتكلم هنا خاصة عن "النخب" الواعية بأفكارها، لا عن من تشكل جُلّ
أفكارهم آليات هندسة الرأي العام (وإن كان للجميع نصيب في هذا، قل أو كثر).
أحد الفريقين يرى أن الكون مخلوق، وأن الإنسان عبد
للخالق الذي استخلفه في الأرض ليعبده كيفما ارتأى له. يعبدون إلها أرسل لهم رسالة
خاتمة، فيها هناء الدنيا ونعيم الآخرة. رسالة هداية للناس كافة، في كل مكان وزمان.
تلك الرسالة نزلت على نبيٍ معصوم، منه تستلهم القدوة وبصحابته وتابعيه. لهذا
الفريق تراث بدأ منذ البعثة المحمدية، حتى يومنا هذا، تراث مثّل تفاعل
المسلمين مع
الوحي في سياقاتهم الزمانية المكانية، وطور علوما وأفهاما للدين والدنيا. وهذا
الفريق الآن يرى أن تلك الرسالة هي سبيل نهضتنا، وإن اختلفوا فيما بينهم حول
تفسيرها والاقتراب منها.
على الصعيد الآخر، فريق يضم الكثير من التنوع، لكن
لعل ما يجمعهم هو أن التجربة الحداثية تشكل مرجعيتهم. فسبيل التقدم والحضارة هو
(بعض) ما أنتجته الحداثة من قيم وأفكار، سواء كانت أيديولوجيات سياسية (يسارية
وليبرالية، مثلا)، أو توجهات اجتماعية (الفردانية، عزل الدين عن المجال العام،
مثلا)، أو فلسفات وجودية (الهيومانية ومركزية الإنسان، ما بعد الحداثة والسيولة
المطلقة، مثلا)، أو فلسفات أخلاقية (فلسفة "أنت حر ما لم تضر"، النسبية
الأخلاقية، مثلا)، وهلم جرا. في نفس الوقت، فإنهم يعتبرون ما أنتجته الحضارات ما
قبل الحداثية منتجات عفا عليها الزمن، والاستئناس بها رجعية وتخلف.
الانقسام
والاجتماع السياسي
التنوع والاختلاف سنة مضطردة في الظواهر الاجتماعية،
كما هي في الظواهر الطبيعية. لكن تحول التنوع إلى انقسام وتمزق أمر يصرف جهود
المجتمعات إلى احتراب داخلي، بدلا من البناء على أسس عليها وفاق مجتمعي. هذا
الانقسام يجعل المجتمعات تعيش في حالات توتر مستمرة. فعلى المستوى الاجتماعي، تبرز
مشاهد كمنع المحجبات والمنتقبات من العمل، وحضور حفلات التخرج، أو دخول أحد
الشواطئ. وفي المقابل، يُرى العلمانيون كنخبة منفكة عن المجتمع وعدوة لقيمه وعميلة
للغرب. والمتأمل في تفاعل كل فريق على منصات التواصل الاجتماعي، يدرك عمق الانقسام
بين الفريقين، خاصة وقت التلاسن بينهما.
أما على الصعيد السياسي، فالأمر أخطر. فقد رأينا كيف
أن انعدام الثقة بين الطرفين قد أدى بهما إلى فشل ذريع في إدارة الفترة الانتقالية
فيما بعد الثورة. وانعدام الثقة هذا متفهم إذا عرفنا أن كلّا منهما يرى الآخر
كتهديد وجودي، فالفائز في المعركة السياسية سيحاول هندسة المجتمع بما يتوافق مع
رؤيته للعالم. لقد باءت كل محاولات التجميع بالفشل في فترة ما بعد الثورة. حتى أن
الإنقلاب لم يجمعهم، وصار الجميع (بعدما مسهم ظلم السيسي) يلوم الآخر على ما وصلنا
إليه.
هل
من حل؟
لو تأملنا عوامل الوحدة بين الإسلاميين والعلمانيين
في بلادنا، لوجدناها أكثر ما تكون في معاداة عدو مشترك، سواء كان ذلك الأنظمة
القمعية (كما هو الحال مع الإسلاميين أو العلمانيين المعارضين) أو
"المخربين" (كما هو الحال مع الشيوخ والعلمانيين الموالين للسلطة). لكن
طريق كل منهما ما يلبث عن يفترق ما يتم الحديث عن البناء. فهل من طريق للتوفيق
بينهما؟
لعله من المفيد أن نقول إن تلك الإشكالية ليست
إشكاليتنا نحن فقط في مصر أو في العالم الإسلامي، بل إننا نرى الصراع ما زال قائما
بين المتدينين والعلمانيين حتى في الغرب نفسه. لكن لو عدنا لسياقنا المسلم، فأحسب
أن كثيرا من المفكرين حاولوا أن ينتجوا توفيقات فكرية ما بين الإسلام والحداثة،
لكن الظاهر أن كل تلك النظريات لم تحل الأزمة. على الصعيد الآخر، يحاول البعض لفت
النظر أن الحل يكمن في ترك الصراع الأيديولوجي والتركيز على المنافسة في تقديم
سياسات تخدم الناس، وتحل أزماتهم، وتنهض بالوطن. لكن الظاهر أن صوت الأيديولوجيا
أعلى من ذاك الصوت، بالإضافة إلى أن تلك السياسات التي تخدم الناس ستختلف تبعا
لأيديولوجية من يضعها. آخرون ينادون بالتوافق على آليات (كالانتخابات) لتفصل
النزاع بين الفريقين، لكن هذا الحل باء أيضا بالفشل.
لا شك في أن المجتمعات الغربية الحداثية قد تطورت
لمجتمعات تعددية استدمجت أولئك المخالفين لها، وهكذا كانت الحضارة المسلمة أيضا
على طول تاريخها. القوي عادة ما يستدمج مخالفيه، لكن تحت سيادته. فالتعددية في
الغرب مقبولة في سيادة العلمانية، والتعددية في التاريخ الإسلامي ظلت مقبولة تحت
سيادة الشريعة.
لا يعني فشل أحد طرق التوفيق مرة أنها ستفشل دوما،
على الأقل على المستوى العملي. لكن السؤال الأصعب هو: هل يمكن فعلا أن تقوم تعددية
في مجتمعاتنا دون أن تتسيد إحدى الرؤى على الأخرى؟ لست أدري.