قضايا وآراء

ما الذي لا يريد الاحتلال للعالم أن يراه في فلسطين؟

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
قررت حكومة الاحتلال الإسرائيلي منتصف الشهر الجاري منع نائبتي الكونغرس الأمريكيتين، إلهان عمر ورشيدة، طليب من زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة.

عمر وطليب هما ممثلتان منتخبتان في البلد الأكثر دعماً سياسياً ومالياً لدولة الاحتلال، وهو الولايات المتحدة الأمريكية. ويمثل هذا المنع تناغماً إسرائيلياً مع الهجوم اليميني المتطرف داخل الولايات المتحدة ضد هاتين النائبتين المعروفتين بمواقفهما التقدمية، ويرأس هذا الهجوم عليهما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه، والذي كان قرار الاحتلال بمنعهما استجابةً لتحريضه عليهما إذ غرد ترامب على تويتر قبل قرار المنع بساعات: "إذا سمحت إسرائيل بزيارة النائبة إلهان عمر، والنائبة رشيدة طليب، فسيكون هذا مظهر ضعف كبير من جانبها".

أما السفير الأمريكي في دولة الاحتلال فريدمان فلم يجد حرجاً في دعم قرار دولة أجنبية منع نائبتين منتخبتين من بلده التي يمثلها، وقال إنه يؤيد هذا القرار.

هذا الاصطفاف بين حكومة الاحتلال واليمين المتطرف المتنامي في الولايات المتحدة يدفعنا إلى أن نكون أكثر دقةً حين نقول إن الحليف الأول لإسرائيل هي أمريكا، إذ يجب تحديد أي أمريكا نقصد، فأمريكا الديمقراطية قد يفوز فيها أشخاص مثل إلهان عمر ورشيدة طليب وبيرني ساندرز؛ من الذين يتخذون مواقف نقديةً من ممارسات الاحتلال في فلسطين لا تأتي بالضرورة متوافقةً مع مصالح الاحتلال الإسرائيلي، لذلك فإن الحليف الطبيعي لإسرائيل في أمريكا هو ذلك اليمين المتطرف الذي يتبنى توجهات العنصرية والاستعمار والشعور بتفوق الجنس الأبيض.

هذا التفريق طبيعي؛ لأن الأساس الذي قامت عليه دولة إسرائيل يخلق لديها مشكلةً مبدئيةً مع الديمقراطية، ولا يهم في هذا السياق أن تقيم دعايتها على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأن تكثر من الحديث عن القيم المشتركة التي تجمعها مع العالم الحر.

إسرائيل قامت منذ اليوم الأول على سياسات التهجير والتطهير العرقي والاحتلال ولا تزال تمارس العدوان وتعزل ملايين الفلسطينيين في معازل عرقية وتمنع إعطاءهم حقوقهم السياسية المعترف بها دولياً، وهذه الأفعال ستتناقض بداهةً مع أي نظام حر يؤمن بالمساواة وحقوق الإنسان، وستخلق بالضرورة تصادماً بين هذه الدولة الاستعمارية الاستيطانية؛ وبين كل صوت حر يقرر الانحياز إلى ضميره ويدين الأفعال التي لا يمكن التعايش معها.

منع دولة الاحتلال النائبتين إلهان عمر ورشيدة طليب اكتسب زخمه بسبب كون هاتين النائبتين منتخبين في برلمان الدولة الأكثر دعماً لإسرائيل، ولأن هذا المنع غذى المواجهة الداخلية في أمريكا بين ترامب والحزب الديمقراطي، لكن هذا المنع ليس معزولاً من سياقه، إذ سبق أن منعت دولة الاحتلال ثلاثةً من أعضاء الكونغرس هم مارك بوكان، ودان كيلدي، وهانك جونسون من دخول قطاع غزة المحاصر في نيسان/ أبريل 2018، وبررت هذا المنع في حينه بذرائع أمنية.

وفي عام 2017، صادقت الهيئة العامة للكنيست على مشروع قانون يدعو الى منع أي شخصية تدعو أو تؤيد مشروع مقاطعة إسرائيل؛ من دخول أراضيها من كافة أنحاء العالم، ليصبح قانوناً ساري المفعول.

وفي أيلول/ سبتمبر القادم، ستعقد المحكمة الإسرائيلية العليا جلسةً حول ترحيل ممثل منظمة هيومان رايتس ووتش في فلسطين، عمر شاكر، لاتهامه بدعم حركة المقاطعة.

وقد كتب عمر شاكر في مقال له بصحيفة واشنطن بوست، بتاريخ 18 نيسان/ أبريل 2019: "تقول السلطات الإسرائيلية إنها ترحلني لأنني أروّج لمقاطعة إسرائيل. إذا ما نظرنا إلى مفارقة أن إسرائيل أعلنت نفسها "الديمقراطية الوحيدة" في المنطقة، وهي الآن ترحل مدافعا عن الحقوق بسبب التعبير السلمي، فإن زعمها هذا غير صحيح".

لا نستطيع أن نفصل بين القيود الإسرائيلية على دخول النشطاء الذين يتخذون مواقف أخلاقية منصفة، أو الذين ينظرون إلى الوقائع دون انحياز مسبق إلى الرؤية الإسرائيلية، وبين طبيعة المشروع الصهيوني الاحتلالي ذاته، إذ إن هذا المشروع أقام وجوده ورفاهية سكانه منذ اليوم الأول على سياسات التهجير والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني، وهذه السياسات مرتبطة عضوياً ببقاء هذا المشروع. لذلك، لن يأتي اليوم الذي يكون بمقدور هذا الكيان الاستعماري على الاستمرار؛ دون أن يواصل إحكام القبضة الأمنية على السكان الفلسطينيين، وفرض شروط تعسفية على تفاصيل حياتهم اليومية وسفرهم وعملهم، وإقامة حواجز التفتيش والإذلال بحقهم، وتشييد الجدران التي تسرق أراضيهم وتحبسهم في معازل عرقية.

إن الذي سيزور فلسطين متجرداً للحقيقة دون تحيز مسبق سيعاين قصص المعاناة اليومية للناس، وسيشعر بفداحة تكلفة قيام دولة الاحتلال وبقائها وسيكون أقدر على التعاطف مع الحق الفلسطيني، إذ إن اقتراب الناس من بعضهم البعض يثير فيهم القدرة على التفاهم والتعاطف، وهذا الهدف الإنساني الطبيعي يمثل تهديداً للدعاية الصهيونية التي تستمد وقودها من إخفاء الحقائق، ولا تريد للعالم أن يرى آثار جريمتها الماثلة في كل زاوية من زوايا الحياة الفلسطينية.

لذلك تحرص دولة الاحتلال على تمرير انتقائي للمشاهد، إنها ترحب بالانفتاح على العالم، لكنها تريد للزوار أن يروا صورة الازدهار والرفاه والتقدم دون أن يروا وجه الاحتلال والإذلال. إنها تنفق أموالاً هائلةً لاستجلاب السياح وإبهارهم بإنجازاتها، وإغراء اليهود منهم على الاستيطان فيها، لكنها تستثمر في أولئك الأيديولوجيين المتعصبين لها، والذين أعمتهم عصبيتهم عن رؤية الضحايا. كذلك فإنها تستثمر في أولئك الذين لا يهمهم أكثر من الترفيه عن أنفسهم وإمتاعها بزيارة أماكن جديدة، دون أن يقيموا في حياتهم وزناً للمعايير الأخلاقية. لكن إسرائيل لن تختار جمهورها قطعاً من المبدئيين الأخلاقيين الذين سينحازون إلى الإنسان على حساب القوة، مثل إلهان عمر.

يعجب المرء أحياناً من الطريقة التي يكرر التاريخ بها نفسه، ففي عام 1972 منعت دولة جنوب أفريقيا العنصرية "الأبارتهايد" النائب في مجلس الشيوخ الأمريكي تشارلز ديجز جونيور؛ من دخول أراضيها.
التعليقات (0)