رحل سيادة السفير
إبراهيم يسري رحمه الله يوم الإثنين الماضي الموافق (10 حزيران/ يونيو 2019م)،
عن عمر يناهز الثامنة والتسعين.
ولد رحمه الله في قرية السلامون، مركز ههيا بمحافظة الشرقية، عام 1930م. وليس موضوع هذا المقال عرض المناصب الرسمية التي تقلدها الراحل الكبير، بل هو محاولة لعرض الأنموذج الذي قدمه خلال
رحلة حياته الممتدة.
"رجلٌ بأُمةٍ"... لقد كان من القلائل الذين ينطبق عليهم هذا القول، في زمننا على الأقل!
ولو تابعنا مسيرته وإنجازاته، لوجدنا أنه قد أدى من موقعه كفرد ما يعجز عنه العصبة أولو القوة، كما أنه تمتع بشجاعة وإنكار للذات قلّ أن تجدهما في أحد في هذا الزمن.
* * *
إن عمله وحيدا في قضية تصدير الغاز لإسرائيل، وإصراره على تأسيس حملة لا لتصدير الغاز لإسرائيل، عمل لو أحببنا أن نقوم به لحشدنا له عشرات الأسماء في مجالات متعددة.
ولكنه قام بهذا الأمر، وبدأه وحده، ثم انضم له أفاضل كثر (انضماما رمزيا في أغلبه)، ولكن ظل الدور الأساسي الحقيقي في الحملة، هو ما يقوم به هو رغم تقدمه في السن، وكرسيه المتحرك.. لولاه لما قامت هذه الحملة، ولما استمرت، ولما حكمت المحكمة ببطلان التعاقد الخسيس الذي أجراه مبارك مع العدو الصهيوني في غفلة من الأمة، ليمنحها الغاز
المصري بسعر مدعم (كان ذلك الحكم بعد خلع مبارك بالطبع).
* * *
بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 وقف السفير إبراهيم يسري مواقف سيخلدها التاريخ. ففي ظل أجواء قمع لم تر مصر مثلها منذ مئات السنين، قام هو لوحده برفع مجموعة قضايا في مواضع في غاية الأهمية الاستراتيجية، وضم اسمه لقضايا أخرى رفعها آخرون، وكانت تلك الدعاوى بالنسبة لعصابة الحكم ضربا في عموده الفقري بعصا غليظة.
من أهم هذه القضايا: قضية بطلان التقسيم البحري مع قبرص، حيث أكد أحقية مصر في ثلاثة حقول للغاز، منها اثنان نهبتهما إسرائيل، والثالث نهبته قبرص، وبطلان اتفاقية تتيح لقبرص البحث في المناطق الهيدروكربونية في المياه الاقتصادية الخالصة لمصر، (والحقيقة أن المستفيد الأكبر في هذه الصفقات هو العدو الصهيوني).
كما رفع السفير إبراهيم يسري حفظه الله دعوى تطالب ببطلان اتفاق الخرطوم الثلاثي، ذلك الاتفاق المخزي، والذي بمقتضاه تنازلت مصر لإثيوبيا عن حقوقها القانونية والتاريخية في مياه النيل، مع عدم الاعتراض على تشييد سد النهضة الإثيوبي، في مشهد خيانة لا مثيل له في تاريخ مصر!
كما أقام دعوى أمام المحكمة الدستورية العليا بانعدام حكمها بسعودية جزيرتي تيران وصنافير، وقدم طعنا أمام المحكمة الإدارية العليا يطالب بتنفيذ حكم القضاء الإداري بمصرية الجزيرتين.
* * *
في كتبه التي ألفها، ستجد كذلك نظرة عميقة في اختيار الموضوعات، فهي جهد شخص يحتاج إلى مراكز بحثية. فكتاب مثل "الجوانب القانونية لأزمة جامعة الدول العربية"، كتاب فريد في موضوعه، ومن الصعب أن يكُتب فيه بسبب قلة المراجع، وقلة المعلومات.
كذلك كتابه القيم "حتمية تجديد الدبلوماسية العربية"؛ فيه عصارة عقود من العمل الدبلوماسي، وهو فريد في موضوعه كذلك.
وقس على ذلك غالبية مؤلفاته: "غزو علوج الأنجلوساكسون للعراق سنة 2003"، و"تطور القانون الإنساني في ملاحقة الجرائم ضد الإنسانية"، و"أزمة سد النهضة الإثيوبي والمساس بحصة مصر في مياه النيل". والأخيران صادران عام 2014م، أي أنه تمكن من إنجاز هذين الكتابين القيمين وهو في عقده التاسع، على مشارف عامه الخامس والثمانين.
* * *
بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو، دعاني أستاذي الدكتور سيف الدين عبد الفتاح إلى التحرك من أجل القضية الوطنية الأولى في سلم أولويات العقلاء في مصر؛ قضية الاصطفاف الوطني، فبه يتحقق التغيير، والكبوة التي نمر بها في مصر لم تحدث إلا بسبب تفرق الجماعة الوطنية، مما سهل على الثورة المضادة البطش بكل فصيل على انفراد.
وكم اطمأن قلبي حين عرفت أن الراحل العظيم سيشرف هذه المبادرة، وأنه يدعم فكرة الاصطفاف.
كان ذلك "بيان القاهرة"، والذي أطلق على الهواء مباشرة من بيت الوحدة الوطنية، منزل السفير إبراهيم يسري بالمعادي، في الرابع والعشرين من أيار/ مايو 2014، في أول أيام الصمت الانتخابي لمهزلة الانتخابات الرئاسية.. انطلق في ذلك اليوم صوت الدعوة لإحياء ثورة يناير بوقوف ثوارها صفا واحدا، من هذا البيت الذي ما خرج منه إلا كل خير عميم لهذه الأمة.
بعد ذلك بعدة أعوام استمر عمل سعادة السفير من أجل قضية الاصطفاف، وتشرفت الجبهة الوطنية المصرية التي أعلنت من الخارج برئاسته لها، وكان ذلك شجاعة وتجردا لا مثيل لهما منه رحمه الله!
* * *
لقد قام الراحل العظيم بواجبه، فواجه الطغيان، وقام بواجب هام آخر...
فدوّن تجربته بكتابة مذكراته، وفيها الكثير من تاريخه الشخصي، وتاريخ مصر والعالم العربي والإسلامي.
فيها نشأته، وتعليمه، وأسرته، ومحاولات اغتياله في عصر مبارك، وعصر "سيسي"، وفيها فكره الوطني الأصيل الذي ينبغي علينا أن نعلمه للأجيال القادمة.
هذه المذكرات كنز وطني معلوماتي عظيم... أتمنى أن تجد اليد الأمينة التي تظهرها للنور!
رحم الله هذا الرمز العظيم... السفير إبراهيم يسري... فقد كان بحق رجلا بأمة!
* * *
فيما يلي نص بيان القاهرة، كوثيقة تاريخية تشرف بتوقيع السفير إبراهيم يسري عليها:
"تُجمع قوى الثورة والوطن في مصر اليوم على أن ما يجري في ربوع الوطن إنما هو استعادة بائسة وقبيحة لمنظومة نظام مبارك بما قامت عليه من الاستبداد والفساد، وبأبشع صورة ممكنة من بروز الدولة البوليسية القمعية، وبما يطال الجميع ولا يستثني إلا ما سار في ركاب المنظومة الانقلابية، وهلل لعمليات التشويه والإقصاء والاستئصال، ونشر الفوضى والكراهية والانقسام، الأمر الذي يهدد الأمن القومي المصري، بل يمثل تحديا كبيرا لأساس الوطن ومستقبله، ولا يمكن إلا مواجهته ومقاومته.
ومن هنا ندعو قوى ثورة يناير إلى ضرورة الاصطفاف صفا واحدا لاستعادة ثورة 25 يناير والمسار الديمقراطي، في مواجهة منظومة الثورة المضادة والاستبداد والقمع، والعمل لتجديد روح وقوة ثورة يناير المباركة التي تعد عملا مفصليا، ونقطة تحول كبرى في تاريخنا المعاصر.
إن هذا الاصطفاف ضرورة وطنية وواجب الوقت، وشرف يجب أن يقوم له وعليه وبه كل مصري وطني مخلص لهذا البلد، وهدف لن نتوانى عن نصرته وتحقيقه على أرض الواقع.
ندعو لهذا الاصطفاف في إطار شديد الوضوح من الشفافية الكاملة لا السرية ولا الخفاء، فمواقفنا الوطنية كانت وستبقى معلنة بكل وضوح وبلا أدنى التباس، نعلنها دائما في كل ما نملك من وسائل إعلام وإعلان، وبكل ما نملك من أدوات اتصال وتواصل مع الشعب وقواه.
ندعو لهذا الحراك ونقوم به وله في إطار يتسم (بالإضافة إلى الشفافية التي لا سرية فيها) بالسلمية مبدأ ورؤية وأداء؛ سلمية لا عنف فيها؛ إيمانا بأن في أشكال الاحتجاج السلمية سعة للتعامل مع منظومة الاستبداد، ومواجهة كل محاولات الإحباط والمحاصرة والالتفاف على ثورة يناير وقواها ومكتسباتها.
إن الاصطفاف الثوري الوطني أصبح ضرورة لتقوية صف القوى الثورية السياسية والمجتمعية، حتى تبلغ أهدافها وتمكن لأدواتها في التغيير، خاصة أنها قد استُهدفت جميعا ومن دون استثناء من قبل النظام القمعي. هذا الاصطفاف ضرورة كذلك من أجل استرداد مسار الديمقراطية والإرادة الشعبية الحقيقية وتحريك الطاقات لمواجهة شبكات الاستبداد ومؤسسات الفساد.
ومن هنا يهيب المصدرون لهذا البيان (سعادة السفير إبراهيم يسري، والدكتور سيف الدين عبد الفتاح، والشاعر عبد الرحمن يوسف) يهيبون بكافة هذه القوى أن تقوم بكل ما من شأنه أن يحقق هذا الاصطفاف الواجب والتنسيق اللازم، والمقاومة المفروضة؛ وبناء عليه نقترح على قوى يناير والقوى الوطنية المخلصة تشييد منصة انطلاق الاصطفاف الوطني عبر الآليات التالية:
أولا: تأسيس أمانة وطنية للحوار والتنسيق؛ تعمل على التواصل بين القوى الوطنية والثورية والمجتمعية، يتم فيها تمثيل كافة التيارات والشخصيات المستقلة.
ثانيا: تأسيس هيئة للقيام بصياغة "مشروع ميثاق شرف وطني وأخلاقي"؛ لضبط العلاقات فيما بين القوى الوطنية وبعضها البعض، وكذلك في علاقاتها وخطاباتها مع عموم الشعب المصري العظيم.
ثالثا: قيام (مجموعة صياغة مشروع إعلان مبادئ جامع ) يكون محل اتفاق جميع القوى السياسية والثورية الوطنية، ويقوم على دراسة وافية لكافة البيانات وإعلانات المبادئ التي صدرت عن مختلف القوى، والوقوف على مساحات الاتفاق في إطار حوار ممتد ومتجدد بين هذه القوى.
رابعا: أن يتم كل ذلك في إطار مبدأ أساسي هو (ضرورة العمل الجاد على استعادة شبكتي العلاقات والتواصل)؛ بين قوى الثورة وبعضها البعض، وفيما بينها جميعا وبين قطاعات الشعب المخلصة لثورتها والواثقة في انتصارها في نهاية المطاف.
والله ولي التوفيق والتأييد".
القاهرة 24 أيار/ مايو 2014 - 25 رجب 1435
موقع الكتروني: www.arahman.net
بريد الكتروني: [email protected]