هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا أدري لماذا يُخيّل إليّ من سحر فض اعتصام رابعة بمصر أنه بالسودان حيّةُُ تسعى. ولفرط التطابق في المقدمات أجد ذات النتائج كأنها باتت حتمًا مقضيًّا. وانظر للذين ينتظرون نتائج مختلفة كالذين يشاهدون إعادة بث مباراة في التلفاز قد حضروها في الواقع وعرفوا نتائجها وأصابتهم الحسرة من خسائرها ومع ذلك يتفاعلون مع إعادة البث فيقفون ويجلسون، ويهتفون ويصرخون، وتكون قلوبهم لدى الحناجر كاظمين، كأن نتيجة أخرى قد يُعلنها الحكم في نهاية شريط الإعادة.
الفرق الأول أن انقلاب مصر حدث على رئيس مدني منتخب لم يظل في الحكم سنة واحدة، أما في السودان فالانقلاب على رئيس في الأصل منقلب ظل في الحكم ثلاثين سنة وأراد أن يستمر ،
والثاني أن منصتي اعتصام رابعة والنهضة كان يسيطر عليهما الإسلاميون، أما اعتصام السودان أمام القيادة العامة للعسكر فغاب عنه الإسلاميون.
وأما القاسم المشترك الأعظم أن العسكر هم الذين يرسمون خريطة الطريق للجميع فرادى وجماعات، ففي مصر نصّب العسكر أنفسهم أوصياء على الثورة، وفي لحظة أصبحوا ثوريين أكثر من الثوار ويتحدثون عن مبارك وفساده كأنه لم يكن القائد الأعلى لهم وما عصوا له أمراً يوماً من الأيام. فليسوا شركاء في جرائمه بل هم الفاعل الأصلي.
ثم ابتلع الجميع الطُّعم وأخذوا يتعاطون مع ما يفرضه العسكر سلباً وإيجاباً مع الإعلان الدستوري، ومع انتخابات مجلس الشعب وغيرها. فقبل الإسلاميون وفرحوا بما أُعطوا وأخذتهم سكرة النشوة بمدح العسكر لهم وأحسوا أن لحظة التمكين قد حانت وأن الله قيّض لهم هذا الجيش الطاهر ليكون لهم عونًا وسندًا وأن الدولة بخير ما كان فيها واحد اسمه عبدالفتاح السيسي (كما قال نصًّا أحدهم). وضاق الآخرون ذرعاً بذلك وأخذوا يتوددون إلى المجلس العسكري ويطلبون منه الاستمرار لمدة أطول حتى تنضج الأحزاب الصغيرة ويقدروا على منافسة الإخوان، وكأن جاهزية الإخوان منقصة وخيبتهم هم منقبة. وهذه الأصوات الليبرالية والعلمانية واليسارية التي يفترض أنها تطالب بدولة مدنية إذا بهم يريدونها عسكرية لأنهم غير جاهزين الآن، وما أظن الذي لم يجهز على مدار السنوات الطوال بوسعه أن يتجهز في سنتين أو أربع أو أضعافها، "ولو رُدّوا لعادوا لما نُهوا عنه".
إن بضاعتهم الوحيدة هي النيل من هذا البعبع الذي يسحقهم في أي استحقاق انتخابي يحتكم فيه إلى الشعب ، ثم تحولت الأحداث من غزوة الصناديق إلى انتخابات مجلس الشعب إلى حل مجلس الشعب إلى انتخابات الرئاسة إلى الفوز بالمنصب بلا أدوات حقيقية،لأن امتلاك الأغلبية التصويتية لا يعني امتلاك أغلبية الأدوات الحاكمة أو المعينة على الحكم.
ومرت الأيام مسرعة وحدث الانقلاب وحدث الاعتصام الذي نحن بصدد المقارنة به، فتجمع الجميع في صعيد واحد كأنهم إلى نُصب يوفضون، وأبى متخذو القرار الاستجابة لأي نصيحة باستخدام هذا الحشد الهائل بطريقة أفضل أو تحريكهم بطريقة تشتت الخصم واستهزئوا بكل ناصح أمين، واستبعدوا تمامًا أن يذبح العسكر كل هذا العدد الذي جمعوه لهم في صعيد واحد، واستمرأ الجميع المكان واستعذبوا العبادة والتهجد والقيام والدعاء في رمضان على هذا العدو اللدود وتعالت أصوات المنصة بالويل والثبور وعظائم الأمور، والخطوط الحمراء التي ينبغي على الخصم ألا يتجاوزها، وأخذت قوافل الشباب في لبس الأكفان استعدادًا للموت وطلبًا للشهادة في مشهد يُظنّ فيه أن ذلك مما يُُرهب الأعداء، وإذا توجهت بالسؤال لأحد من القيادات عن ماذا بعد، تجده ينظر إليك تدور عيناه كالذي يٌغشى عليه من عجيب سؤالك وضعف جنانك، ورغم أن النُذُر جاءت صريحة وقبيحة في المنصة والحرس الجمهوري ولكن لم يتغير شيء في طريقة التفكير أو التعاطي مع الأمر وظل هذا الجمع من أطهر وأشرف وأعفّ من عرفت مصر بأوامر الاستمرار بنفس الطريقة حتى كانت المذبحة. وليكون الذبح في صعيد واحد لتيسير المهمة على القاتلين المجرمين ، ثم تلا ذلك ماتعلمون وكان ذلك بدعم إماراتي سعودي إسرائيلي.
فما الذي يحدث في السودان الآن ؟
كأن مشهد مصر يتكرر.. ألخصه في نقاط:
1) المجلس العسكري يتقمص دور الوصي على الثورة وحامي حماها ومُطهّر البلاد من رموز الفساد كأنهم هم لم يكونوا بالأمس جنود البشير وداعميه في مواجهة الثوار.
2) الإمارات والسعودية ومصر على الخط مباشرة والدعم المادي حاضر والضغط الصريح على عوض بن عوف وزير الدفاع للتنحي، واختيار عبدالفتاح البرهان رجل الإمارات وقائد عسكر السودان لذبح أهل اليمن تحت قيادة التحالف السعودي الإماراتي، وليكون اسمه عبدالفتاح تيمنًا بمجرمهم في مصر عبدالفتاح أو لإعادة التجربة من حيث الشكل والمضمون حتى في اختيار اسم المنقلب.
3) اليسار ومن لف لفه يطالب بإقصاء الكيزان ومحاكمتهم والمطالبة باستمرار الفترة الانتقالية أربع سنوات بدل اثنتين، لأن مدة السنتين لا تكفي لجاهزيتهم، وكأن الثورة لم تكن ضد العسكر بالأساس بل ضد الكيزان!!!
4) الدعاة والأئمة يجتمعون في مكان واحد وبحضور الفريق الركن وبعض العسكر ويتحدث الدعاة عن الإسلام وأهمية الحفاظ على عُراه، وخطب أحدهم خطبة ما سمعت أروع ولا أجمع منها ، ولكن في النهاية الأمر بإذن العسكر وتحت رعايتهم ، وهم الجلوس على المنصة ،بل ومحاولة التودد إليهم للحماية من دعاة التحلل من كل ماهو اسلامى -وهو أمر في جزءٍ منه صحيح-.
5) العسكر يقولون أن قوى الحرية والتغيير قدمت أكثر من مئة مقترح للتدليل على الفرقة والتشرذم واختلاف الرؤى مما يهدد مستقبل السودان إذا أوكل الأمر إليهم !!
6) الثوار يوقفون القطار فيستخدم العسكر الواقعة في التشنيع عليهم كما أوقف الثوار طريق قليوب القاهرة في مصر.
7) العسكر يصدرون تصريحًا صريحًا للتهديد بعدم استمرار الفوضى وضرورة المحافظة على مصالح الجماهير توطئة لما يحدث بعد ذلك وأنهم أنذروهم وأعذروهم.
8) يظل العسكر يجتمعون بالفصائل والأحزاب والأفراد منفردين ويؤججون بينهم العداوة والبغضاء ويزيدون الفرقة والانقسام.
9) يستمر الاعتصام ويسعد الناس بجوّه الجميل وخاصة في رمضان، والمنصة نفس شكل المنصة، وصلاة التراويح والدعاء وإطعام الطعام من أهل الفضل ثم التجهز للعيد بعمل الكحك والبسكوت بالميدان ويتركهم العسكر ذوو القلوب الرحيمة في رمضان !!
10) يُطلق عباس كامل السوداني الإشاعات والنيل من سمعة المعتصمين والتشنيع عليهم بتعطيل مصالح الجماهير وقد يفتعلون هم حوادث ويلصقونها بالمعتصمين.
11) تعمل آلة الإعلام الجبارة على عظمة الجيش السوداني وطول صبره على هؤلاء الشراذم العاطلة والمُعطِّلة وقد تصدر فتاوى على جمعة السوداني بالضرب في المليان.
12) مجلس السلم والأمن الإفريقي بعد أن كان أعطى مهلة أسبوعين للمجلس العسكري لتسليم السلطة للمدنيين إذا به يمنح فرصة أخرى ستين يومًا وربما بعدها يمنح المجلس العسكري فرصة ستين سنة.
13) ومع ذلك فالناس كما هم يُصرّون على الاعتصام في مكان واحد أمام القيادة العامة للقوات المسلحة، ليسهل حصارهم وسحقهم ولا يريدون الاستفادة مما حدث لإخوانهم في حوض وادي النيل فيقومون بتنويع وسائل الثورة مما يحول دون سحقهم ، والتجمع حول الأهداف العليا، والتغاضي عن مواضع الخلاف ولا يريدون التعاطي إيجابيًّا مع بعضهم البعض وتقديم المصلحة العليا على المصالح الحزبية والفردية ويكررون نفس الأخطاء، فيقوم عبدالفتاح البرهان السيسي بفض الاعتصام بعد رمضان بعدة أيام وتكون المذبحة – لا قدر الله – ذات المذبحة ويظل الناس في مشاهدة شريط إعادة بث المباراة…