صحافة دولية

كيف يمكن أن ينهي "بريكست" ميزة بريطانيا في الاستخبارات؟

الاتحاد الأوروبي بريطانيا - جيتي
الاتحاد الأوروبي بريطانيا - جيتي

نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية تقريرا سلّطت من خلاله الضوء على تداعيات انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي على الجهاز الاستخباراتي البريطاني الذي لطالما عرف بنفوذه وجودة عملياته.

وقالت المجلة في تقريرها الذي ترجمته "عربي21" إن سمعة بريطانيا كبلد منتج لجواسيس من طراز رفيع تقوم على أكثر من مجرد أسطورة. فعلى امتداد عقود، سواء كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية أو بعدها، مثّل العمل المُضني والمكثّف لضباط المخابرات البريطانية أحد المصادر الرئيسية لنفوذ المملكة المتحدة.

وأفادت بأن هذا النفوذ وركائزه الأساسية تواجه جميعها خطرا بسبب انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، حيث من المحتمل أن يكون لهذا القرار سلسلة متعاقبة من التداعيات على الاستخبارات البريطانية، بما في ذلك إقصاء بريطانيا من مؤسسات الاتحاد الأوروبي التي لطالما خدمت الأمن القومي البريطاني. علاوة على ذلك، قد تتأثّر العلاقة المميّزة بين الاستخبارات البريطانية والولايات المتحدة إذ من المرجّح أن تسعى هذه الأخيرة إلى تعزيز العلاقات مع بروكسل.

وأشارت المجلّة إلى أنه عبر التاريخ ومنذ اندلاع الحرب العالمية الأولى، عُرف كل من المكتب الخامس التابع لجهاز الأمن الاستخباراتي البريطاني، الذي يتعامل مع المكتب السادس لجهاز الاستخبارات السرية بصفته المسؤول على الاستخبارات الخارجية، إلى جانب مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية التي تهتم بعملية استخبارات الإشارات، داخل البلاد وخارجها بأنها بمثابة "رولز رويس" أجهزة الاستخبارات.

ونوّهت بأنه خلال الحرب العالمية الثانية، تابعت الاستخبارات البريطانية تحقيق نجاحاتها غير المسبوقة ضد دول المحور. وتُعزى هذه الانتصارات بشكل كبير إلى الإنجازات في حديقة بلتشلي حيث قام المختصون في فك الشيفرة من البريطانيين ومن الدول الحلفاء بتفكيك آلة إنجما الشهيرة التابعة لألمانيا لإنتاج الشيفرة السرية. وقد سمح لهم هذا الأمر بالنفاذ إلى قدر أكبر من المعلومات بشأن الرايخ الثالث، أي أكثر مما تمكّنت أي دولة عبر التاريخ من معرفته بشأن حكومة أخرى.

 

إقرأ أيضا: 97 مليون دولار خسائر المغرب من خروج بريطانيا من "بريكست"

وأوردت المجلّة أنه خلال الحرب الباردة، نجح الجواسيس البريطانيين في مزيد تحسين سمعتهم. وقد اتسمت الإمكانيات التقنية لمكاتب الاتصالات الحكومية بجودة عالية حيث أكدت الأقاليم التابعة لبريطانيا في جميع أنحاء العالم، أنها مفيدة جدا في تجميع المعلومات الاستخباراتية للمملكة المتحدة والولايات المتحدة. كما قامت بريطانيا بإحباط بعض عمليات الانقلاب والاستخبارات المضادة الهائلة.

وأضافت أن مثل هذه الإنجازات ساهمت في تحويل مجال الاستخبارات إلى عامل عزّز قوة بريطانيا خلال الحرب الباردة، ما ساعدها على الاحتفاظ بمكانة هامة في الشؤون الدولية بصرف النظر عن تراجع قوتها الاقتصادية والعسكرية. وتعاونت مكاتب الاتصالات الحكومية مع وكالة الأمن القومي الأمريكية حيث مثّلا وجهان لجهاز واحد، ضخم وممتد عبر المحيط الأطلسي، لتجميع المعلومات الاستخباراتية. وقد ساعدت هذه العلاقة المشتركة بين الوكالات على كسب لندن نفوذا سياسيا في واشنطن.

وذكرت المجلّة أن الملفات التي رُفعت عنها السرية قبل 20 سنة تقريبًا، تُظهر أنه خلال ستينيات القرن الماضي، أوصت لجنة الاستخبارات المشتركة، بصفتها أعلى هيئة لتقييم الأداء الاستخباراتي في بريطانيا، رؤساء الوزراء المتعاقبين بضرورة الانضمام إلى أوروبا نظرا لأن في هذه الخطوة عامل بالغ الأهمية يخدم التوجّه الاستراتيجي المستقبلي لبريطانيا. وتمثّل هذه الطريقة الوسيلة الوحيدة التي تخوّل للبلاد تفادي الركود الاقتصادي وحماية علاقتها المميزة مع واشنطن التي تعتبر أن قيمة المملكة المتحدة تكمن في وجودها داخل أوروبا لا خارجها.

وأوضحت أن مؤيدي انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي أشاروا إلى أن خروج بريطانيا لن يشكّل فارقا، لا سيما أنه بعد انضمامها إلى الاتحاد، واصلت وكالات الاستخبارات البريطانية العمل مع دول الاتحاد الأوروبي على صعيد ثنائي، وليس مع الاتحاد ككل. ومع ذلك، لم تأخذ هذه النظرة المتفائلة بعين الاعتبار التداعيات الحقيقية لانسحاب البلاد على الأمن القومي البريطاني.

وأوردت المجلة أن المملكة المتحدة قد استفادت من عضويتها في الهيئات التابعة للاتحاد الأوروبي، على غرار وكالة تطبيق القانون الأوروبية "يوروبول" ونظام معلومات شنغن، الذي يزودها بمعلومات عن الإرهاب والاتجار بالبشر والجرائم الخطيرة الأخرى. فضلا عن ذلك، استخدمت الشرطة والجهاز الأمني والاستخباراتي البريطاني، "المكتب الخامس"، هذه البيانات لتعقّب الضباط الروس الذين حاولوا اغتيال الجاسوس الروسي السابق، سيرغي سكريبال، في سالزبوري سنة 2018.

في المقابل، وفي حال انسحبت المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فإن بريطانيا لن يكون بإمكانها الولوج إلى مثل هذه المعلومات الهامة، وهو ما جعل المسؤولين السابقين في الاستخبارات البريطانية يحذّرون بشكل علني، قبيل إجراء استفتاء حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سنة 2016، من أن مغادرة الاتحاد سيضر بأمن البلاد.

وبيّنت المجلة أنه ينبغي على أجهزة الاستخبارات أن تتأقلم مع الوضع الجديد إثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وسيكون عالم الإنترنت الحل الواعد. وفي هذا الخصوص، تعتبر "مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية" وكالة عالمية رائدة في مجال الاستخبارات الرقمية. وسيكون من الحكمة أن تضاعف بريطانيا ميزتها النسبية في مجال التقنيات الرقمية، وهو ما يبدو أنها الخطوة التي شرعت في القيام بها.

في الأثناء، أقرت الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني في بريطانيا للفترة الممتدة بين 2016-2021 بشكل علني ولأول مرة بأن البلاد تملك قدرات قرصنة هجومية. ويتمثل أحد أهم المجالات المستقبلية المحتملة لنمو مجال المخابرات البريطانية في تعزيز هذه القدرات والقيام بهجمات إلكترونية على الأطراف الحكومية وغير الحكومية التي تشكّل تهديدا على أمنها، على غرار هجوم فيروس "ستوكسنت" الذي يُزعم أنه من صنع إسرائيل والولايات المتحدة ووقع اكتشافه سنة 2010، والذي استهدف برنامج إيران النووي.

وذكرت المجلة أن حرب الإنترنت تقدم فرصة جديدة لبريطانيا لتثبت كفاءتها، خاصة لكونها لا تتطلّب قوة عسكرية تقليدية، والتي كان من الصعب عليها توفير متطلباتها في ظل سياسة التقشف طويلة الأمد. ومن المحتمل أن يكون العمل السري والتركيز على الدفاع ضد المعلومات المضللة مجالا آخر لنمو مجال المخابرات البريطانية. ويتمثل انتشار الأخبار الزائفة التي تصدرها الأنظمة الاستبدادية، على غرار الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا، على شبكة الإنترنت، التحدي الرئيسي الذي يواجه المجتمعات الغربية.

ونوّهت بأنه من الممكن أن تقوم أجهزة الاستخبارات البريطانية بالتجسس على الاتحاد الأوروبي. وفي حال حصل هذا الأمر، فلا أحد من الأطراف الخارجية يمكنه أن يعلم مقدار المعلومات التي تملكها المملكة المتحدة. وحتى الآن، لم يقع رفع السرية عن السجلات، لكن لبريطانيا تاريخ طويل في التجسس على حلفائها. وخلال العقود الأخيرة، يبدو من المرجّح أن التعاون السياسي الاستثنائي وواسع النطاق، الذي ترتّب بالضرورة عن دخول الاتحاد الأوروبي، جعل التجسس البريطاني على أوروبا محفوفا بالمخاطر، والعكس صحيح. ولكن بمجرد انسحابها من الاتحاد الأوروبي، ستكون بريطانيا غير ملزمة بالتقيد بهذه الشروط.

في الواقع، منذ بدء محادثات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أشارت شائعات إلى أن الاستخبارات البريطانية كانت تستهدف مفاوضي الاتحاد الأوروبي. وسواء كان هذا الأمر صحيحا أم لا، فمن غير المرجح أنه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيكون هناك علاقات تعاون متبادلة بين الجانبين في مجال التجسس. في المقابل، تعني التهديدات الخارجية المشتركة، وخاصة التي تمثلها روسيا والصين، وإمكانية اندلاع حرب باردة جديدة، أن الوكالات البريطانية والاتحاد الأوروبي سيكون لديها حافز لمواصلة التعاون بينهما.

وأفادت المجلة بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يتزامن مع الثورة الإلكترونية، لكنه يتيح فرصًا لبريطانيا للحفاظ على بعض من مظاهر قوتها العالمية الحالية. ويعتبر الاستثمار في الاستخبارات الرقمية أفضل مخرج بالنسبة للندن، وربما أفضل طريق للخروج من مستنقع المخابرات الاستراتيجية الذي يطرحه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

التعليقات (0)