تسونامي القيادات السنية
التغيرات التي حصلت في واقع القيادات السنية تحمل كثير من علامات التعجب، فالصعود الصاروخي مقابل الانحدار السريع، وتغير المواقف سمة تربك كل المتابعين للمشهد
العراقي.
منذ عام 2003 لم يستطع السنة الاجتماع في جبهة واحدة، فقد انقسموا بين مشارك للعملية السياسية وبين معارض لها ومنحاز إلى المقاومة، إلى أن انهارت المقاومة لتخلفها القاعدة ثم داعش التي رفضها الجميع.
وفي داخل جبهة المشاركة في العملية السياسية تميزت ثلاثة توجهات:
- جبهة التوافق
- حركة الوفاق ومن معها
- جبهة الحوار
اضافة إلى مجاميع محلية صغيرة.
شهدت التوافق تراجعا كبيرا عام 2010، ولكن الحزب الإسلامي بقي يمثل حالة سنية رمزية، محافظا على رصيده الثابت وإن كان صغيرا، على الرغم من الهجمة الشرسة التي تعرض لها من أطراف عدة، وسيل اتهام لا ينقطع جراء مشاركته في العملية السياسية ومواقفه التي اتخذها من القضايا الرئيسية.
نجوم القائمة العراقية الذين اكتسحوا الساحة بمئات آلاف الأصوات لكل واحد منهم، كأسامة النجيفي وطارق الهاشمي وإياد علاوي ورافع العيساوي وصالح المطلك، انهاروا في
انتخابات 2018 انهيارا هائلا، مفسحين المجال للكتل المحلية الصغيرة بالصعود،
كالحلبوسي والكربولي والخنجر وأبو مازن، ليتقمص هؤلاء دور التمثيل السني.
انقلاب غريب في توجهات الرأي العام السني في التحول من القيادات الرمزية التي طالما تحدثت بالمبادئ إلى القيادات التي لا تمثل توجهات مبدئية واضحة، والتي يكال لها الاتهام بأنها أساس الفساد، ولم يخلُ أي منها من دعاوى في المحاكم!
وقبل الحديث عن استراتيجيات
الأحزاب السنية لنا أن نتساءل: هل أن المجتمع السني قادر على أن يراجع توجهاته ودوره وبلورة توجهات واضحة؟ فالملاحظ أن الرأي العام السني يُختزل دوره تدريجيا بابتعاده عن المشاركة الانتخابية، وهذا وضع لن يخدم دور ممثلي المكون السني في العملية السياسية.
لقد كان الفشل في تكوين جبهة للقوى السنية هي التي دفعت هذه القوى للانحياز إلى كتلتي البناء والإصلاح، وكلتيهما شيعية المنشأ أصلا، ولكن
السنّة، وتبريرا لانحيازهم، اعتبروا ذلك تجاوزا منهم للاستقطاب الطائفي وتحولاً إلى كتل عابرة للطائفية !!
فهل فعلا ينظر المجتمع السني لهم بهذه الصورة، أم يعتبر ذلك انحدارا للواقع السني نحو التبعية لغيره؟!!
مهما كانت النظرة، فالكتل السنية بحاجة إلى استراتيجية جديدة لتستطيع تعزيز مكانتها، سواء كانت عابرة للطائفية أم لا، أما استمرار حالة الضياع التي هي عليها فلن تخدمها في شيء.
الحالة السنية تختلف كثيرا عن الحالة الكردية، فخلاصة الموقف الكردي لا يتجاوز أن يكون ممثلا بخمسة أحزاب فيها قدر من استقرار الانتماء وثبات الرصيد الانتخابي، أما الحالة السنية فهي تقارب الحالة الشيعية في التعدد الكبير للأحزاب، ولكن جميعها تعاني من ضعف وجودها شعبيا وعددياً. ولعل إحدى أكبر عقبات وحدة الموقف السني؛ التنافس الشديد بين قيادات هذه الأحزاب ونرجسيتها وتقلبها في المواقف.
ولكن سنحاول تقديم سيناريوهات متوقعة يمكن أن تقدم عليها هذه الكتل السنية:
أولاً: تحالف القرار بقيادة أسامة النجيفي
ونعتبره نعتبره الخاسر الأكبر في انتخابات 2018، وسيكون بحاجة إلى تجاوز النرجسية القيادية لرئيسه، والانفتاح لتكوين تجمع جديد والتوقف عن النظر إلى الآخرين من فوق، وبناء خطاب جديد وعلاقات داخل التجمع مبنية على التكافؤ بين قياداته، واعتماد شكل من أشكال العمل الحزبي التنظيمي، وعدم الاكتفاء بالتأييد الجماهيري المتراجع لقياداته. فقيادات القرار لا زالت تحظى بقدر لا باس به من الاحترام في الشارع، ويمكن أن تستعيد مكانتها.
وقد يكون بإمكان
أسامة النجيفي إعادة بعث تحالف القوى الوطنية العراقية مجددا بصيغة غير التي كان عليها، وإبعاد الذين أساؤوا لهذا التحالف. ونعتقد أنه سيجد هناك كثيرون ممن هم مستعدون للتعاون معه، ولكن يريدونه شريكا وليس زعيما يفرض نفسه عليهم. فهل يستطيع أسامة تقمص هذا الدور الجديد، أم ستبقى عقدة القيادة الثقل الذي يجره نحو الأعماق؟!
لا يكفي للقرار أن يجمع نفسه، بل لا بد أن يحدد دوره ورؤيته ومشروعه ونمط علاقته بالآخرين، فهل عنده الاستعداد ليتحول إلى كتلة عابرة للطائفية، فيجمع معه الشيعة كما يجمع السنة، أم سيفضل أن يبقى كتلة سنية بحتة؟ وهل أجرى دراسة لتوجهات الرأي العام السني ليعرف كيف يرسم بوصلته؟!
أسئلة كثيرة عليه أن يجد لها جوابا..
ثانياً: تحالف الكرابلة
وهو تحالف ضم عدد من شخصيات وقوى صغيرة، ونجح في أن يجمع السنّة الآخرين تحت عنوان المحور، ولكنه محور بدأت عوامل التفكك تظهر عليه سريعا، وسينهار تماما حالما يتم استكمال تشكيل الحكومة العتيدة.
تحالف الكرابلة له استراتيجية اعتمدها، المال والإعلام في خدمة المزيد من النفوذ السياسي، وقد نجحت هذه الاستراتيجية إلى الآن، وهو يمارس خطوات بناء تنظيم يعتمد احتواء العناصر المحلية ودعمها واستقطاب مزيد من الشباب معه، ومن المبكر الجزم بمدى النجاح الذي يمكن أن يحققه.
نقطة ضعفه كثرة السهام التي توجه إليه بالفساد، وفقدان المبدئية في العمل والتقلب الشديد في المواقف، وخذلان الحلفاء إرضاء لحلفاء جدد، وهو تمثيل واضح للبراغماتية السياسية إلى حد الانتهازية، ولن يكون غريبا أن ينفض خميس خنجر وأبو مازن ومحمد إقبال أيديهم عن تحالفهم مع جمال الكربولي، فقد حقق لهم الأخير ما يريدونه!
في تقديرنا، وصل الكرابلة الحد الأعلى من النفوذ الممكن لهم أن يحققوه، ولن يستطيع تجاوزه إلا بجرعات قوية من المواقف الوطنية الواضحة، والتحول من حالة الزعامة الفردية إلى الزعامة الجماعية وتحسين صورته السيئة جدا في المجتمع.
إحدى مؤشرات النجاح ستكون عندما يستبدل الناس تسميته بـ"الكرابلة" إلى تسميته باسمه الرسمي، وعندما ينجح باستبدال حزب الحل بحزب جديد يمثل القوى التي تحالفت معه والمستعدة أن تبقى على شراكتها معه.
قد تبدو الوصفة بسيطة، ولكن الواقع يقول أنه سيكون صعب جدا تحقيقها، فتحالف الكرابلة مركب يركبه من يريد أن يتجاوز مرحلة ما ثم يودعه بعد ذلك.. وسننتظر لنرى كيف ستسير الأمور.
القائمة الوطنية
اجتمع في هذه القائمة أقطاب مهمون (علاوي، المطلك، سليم الجبوري) ومعهم آخرون لهم شأن، ولكن الغريب أن نتائجهم الانتخابية كانت محدودة، وتحالفهم بقي هشاً، وإلى الآن لم يثبت لهم وزير في الحكومة.
ولولا إصرار غريب من الكتل السياسية أن تأخذ الوطنية وزارة الدفاع، رغم عدم قدرتها على تقديم مرشح مقبول لما بقي من الوطنية أثر، لا سيما وأن الدكتور علاوي يعمل على أن تخلفه ابنته سياسيا!
الدكتور علاوي لم يطور استراتيجية محددة منذ أن تفككت العراقية، وليس هناك في الأفق ما يشير لوجود مراجعة سياسية لتحديد استراتيجية قادمة، اللهم إلا الاعتراف بالدور الإيراني المتزايد في العراق والاستعداد للتناغم معه.
وكذلك تبقى التساؤلات قائمة بخصوص قدرة العراقية ورموزها على البقاء.
الحزب الإسلامي العراقي
هل يستحق الحزب أن نفرد له عنوانا خاصا به؟ قد تختلف الإجابة بين واحد وآخر، ولكن لا شك أنه يمثل حالة لافتة في القدرة على الصمود والمطاولة، رغم الحصار الذي فرض عليه من جهات متعددة داخلية وخارجية.
لا شك في أن الحزب خسر كثيرا بخروج عدد من عناصره منه، وأن الضعف قد نال منه بشكل جلي، مع أن خسارة الخارجين منه كانت أكبر، فهم بين ممنوع من العمل داخل العراق، وبين فاقد لشعبيته بسرعة البرق.
والحقيقة أنه وإزاء ما تثار حول الحزب من شبهات، نتساءل: هل يعاني الحزب من أزمة فكرية داخلية دفعت الأمور إلى ما هي عليه؟!
من مراجعة لخطابه السياسي، نجد سمت الاعتدال هو السائد في مجتمع لا يحب الاعتدال، ومن الغريب أن زعيمه وقياداته يحظون باحترام الآخرين، ولكن ذلك لا ينعكس ذلك إيجابا على شعبيته وتقبل الجمهور له، وذلك نتيجة رفض الكتل السنية التحالف معه.
وقد آثر الحزب الدخول إلى الانتخابات عبر كتلتين عابرتين للطائفية هما: تحالف النصر وتحالف الوطنية وحقق بعض النجاح في التحالف الأول واخفاق كبير عبر التحالف الثاني، وهو بحاجة إلى أن يدرس تجربته الانتخابية، إذ لا يبدو الوضوح فيها.
أزمة الحزب كانت أن جبهة التوافق التي أنشأها لم ترض شركاءه ولم ترض جمهوره، فآثر كلاهما البحث عن خيارات أخرى، ولكن هل حققت الخيارات الجديدة شيئا لمن رغب فيها؟!
لا يبدو ذلك إطلاقا..
أما الأصوات التي حازها مرشحو الحزب، فعلى الرغم من أنها لم تحقق له إلا نتائج محدودة، فذلك يعود ربما إلى سوء إدارة لحملته، وضعف توفير الإمكانات اللازمة لمرشحيه، أو تقدير مبالغ فيه لرصيده في الشارع الذي ملأته قوى أخرى صاعدة، كما أشرنا أعلاه.
في تقديرنا أن الحزب الإسلامي سينتهج مستقبلاً السياسات التالية:
- الاقتراب من المكون الشيعي وأحزابه
- التوسع في البناء التنظيمي
- توسيع
تحالفاته السنية، مستفيدا من التناحر القائم بينها
- تجنب المواجهات مع الأطراف الأخرى
ولكن التحدي الكبير هو :
كم قدرة الحزب في مواجهة عداوات الآخرين التي لم تنته؟
وكم قدرة الحزب في استعادة ثقة الجمهور السني به؟ وهل سيقبل الجمهور بسياساته أعلاه، أم سيبقى يبحث عن الصوت المرتفع؟
وهل سيستطيع الحزب تقديم الصوت المرتفع دون الإخلال بسياساته؟
وإذا كان الإعلام مهما في التأثير في الجماهير، فماذا يعمل بعد أن فقد غالب مؤسساته الإعلامية وخفت صوته، فنادرا ما نسمع له صوتا؟!
وهل سيستطيع الحزب تبني سياسة متميزة يعبر بها عن مبدئيته، فيستقطب من خلال ذلك قطاعا متزايداً من مجتمع تغلب عليه السلبية؟!
إن الفرصة أمام الحزب واعدة لو صاغ لنفسه سياسات جديدة، فهل يستطيع؟!
ربما..