كان ذلك الاستعراض لقضايا متعددة تتعلق بالفجوة الجيلية وفجوة التثقيف، وكذلك الفجوة التنظيمية ومسألة الشورى داخل التنظيم؛ لأنها شكّلت في حقيقة الأمر بيئة أفرزت جملة من المواقف التنظيمية التي اختطت مسلكا وطريقا لا تمثل القدرة الاستيعابية للتنظيم، بل مثلت مسلكا استبعاديا، وهو أمر يثير القضية المتعلقة بإشكالية التصدعات في ذلك التنظيم، والتي مثل في ذروتَها خروجُ بعض التنظيمات عن
الإخوان، إضافة إلى خروج بعض المنتظمين أفرادا أو جماعات.
ومن المهم هنا أن نشير إلى مؤشرات للتعامل مع بعض الأحداث الكبرى التي مرت بحركة الاخوان؛ وأدت في الغالب إلى ابتعاد أو استبعاد بعض من هؤلاء الذين كانوا يمثلون قيادات، سواء على المستوى العام أو على مستوى
الشباب. ومن المهم أيضا أن نؤكد أن مشاهد مثل الخروج أو الاستقالات أو الاستبعادات، أو حالة التواري عن المشهد بوجه عام، إنما شكلت في واقع الأمر مؤشرات على تصدعات أو تشققات أو انشقاقات داخل بنية التنظيم وحركته.. ومن المهم كذلك أن تدفع تلك الظاهرة التي تؤشر على خلل ما؛ لاستنفار قدرات التنظيم في التعامل مع تلك الظواهر ودراسة أسبابها، وتبصر جملة العوامل الدافعة والكامنة فيها، الظاهر منها والمخفي، ما يؤثر على حالات التصدع أو الانشقاقات.
هذه الحال قد تستنفر التنظيم إلى حالة من
النقد الذاتي الواسع لمعالجة الظواهر التي وقعت أو لتوقي ظواهر مماثلة متوقعة أو محتملة، ومن هنا فإن دراسة هذه الأمور الفكرية والحركية والتنظيمية، وكذلك تفحص الخريطة الادراكية داخل التنظيم يمكن أن تدفعهللمبادرة من خلال أجهزة للاستدراك والمراجعة بما يحافظ على الحركة في مساراتها وفي تماسكها، وكما أكدنا فإن الأحداث الكبرى فضلا عن ضغوط السلطة وحالة المحاصرة للتنظيم، شكلت بيئة مواتية لبعض هذه الانشقاقات ولكنه من المهم أن نؤكد أن حدوث ذلك، إنما يعود إلى تلك البيئة التي أشرنا إليها في تلك السنوات المختلفة التي تراكمت وشكلت خللا في بنية الحركة والتنظيم، والتي لم تواكبها حالة من المراجعات الفكرية والتنظيمية وغلب عليها ردود أفعال قامت على قاعدة الاستبعاد والتحقيق والفصل والاستقالة والانفصال والاستقلال، أشكال كثيرة اتخذتها تلك التصدعات ولكنها أشارت في واقع الأمر إلى غلبة أساليب الاستبعاد على مسالك الاستيعاب، وأن القدرة الاستيعابية للحركة لم تكن في حالة الكفاءة المطلوبة لتوقي كثير من المشاهد التي تشير إلى تلك التصدعات والانشقاقات.
يبدو لنا أن المسألة في تقدير المواقف، وفي القدرة على التعامل مع عالم الأزمات والمخاطر والفرص، إنما شكلت قابلية لبعض الانشقاقات أو الخروج من الانتماء التنظيمي، مع عدم وجود آليات فاعلة لإدارة التنوعات والاختلافات، رغم إبقاء البعض على حالة من الانتماء الفكري. ويبدو لنا أن الفكرة التي تتعلق بشكل "الخروج المهادن"ـ إن صح هذا الوصف.. والتعبير قد أغرى التنظيم بشكل أو بآخر إلى حالة من إغفال دراسة هذه الأمور والوقوف على أسبابها، وعدم تبصر العوامل الدافعة لهذه التصدعات أو الانشقاقات أو أشكال الخروج المتكرر. ففي كثير من الحالات، خرج من خرج من طاقات فكرية وقيادات، ومع ذلك ظل الوضع على ما هو عليه، إلا أنه في الآونة الأخيرة برزت أشكال من التصدعات والانشقاقات لم تخلو في واقع الأمر من خطاب هنا وهناك وصل فيه إلى مستوى غير مسبوق من فجر الخصومة، أو هؤلاء الشباب الذي مثل بعد الثورة حالة إحباط دفعته إلى عدم الانتماء التنظيم وتكرار حالة الخروج حتى قبل وقوع ثورة يناير.
من المهم هنا أن نشير إلى الانشقاق الذي تعلق بتأسيس حزب الوسط ضمن واحد من أهم المؤشرات التي عبرت عن وهن وضعف في القدرة الاستيعابية للتنظيم الإخوانيمما أدى إلى خروج البعض لتأسيس حزب الوسط ضمن تطورات فكرية وحركية، والذي واجه في البداية حالة من انتقاد التنظيم الكبير لمثل تلك الانشقاقات، مع التهوين من آثارها. ولم يخل ذلك من خطاب تشكيكي هنا وهناك، واستقر الأمر إلى حالة من الاستبعاد. وبرزت انشقاقات بعد ذلك عبرت عن نفسها في تيارات معينة خاصة بعد قيام الثورة
المصرية من مثل خروج عبدالمنعم أبو الفتوح وتأسيس حزب مصر القوية وانشقاق الشباب بعد الثورة وتأسيس التيار المصري الذي التحق بعد ذلك بمصر القوية، والذي في حقيقة الأمر عبّر عن نفسه في أزمة حقيقية وخطاب استبعادي لأطراف من الشباب كانت تمثل شباب الإخوان في ائتلاف شباب الثورة. أيضا لا يمكننا أن ننسى في هذا المقام الإشارة إلى ما يمكن تسميته بالاستقلال النسبي الذي مارسته الحركة الطلابية في حركتها داخل الجامعات المصرية، كل ذلك في حقيقة الأمر مثّل - كما أشرنا - إلى ضعف التنظيم في فاعلياته المتعلقة بقدرته الاستيعابية.
مثلت هذه التصدعات والانشقاقات حالات متعددة؛ منها ما يمكن أن نسميه الانشقاق المرضي، والذي تمثل في أشكال من الخصومة الفاجرة، حيث لم يتوان بعض هؤلاء في دعمهم ومساندتهم للعسكر في انقلابهم (مثل كمال الهلباوي، ومختار نوح، وثروت الخرباوي.. يضاف إليهم محمد حبيب).. كل تلك التصريحات والخطابات حملت مفردات حادة واتهامات يصعب تصديقها. ومن المؤسف حقا أن لا نجد تفسيرا مقنعا لهذه الانشقاقات التي حدثت، خاصة مع استخدام لغة خطاب تتسم بالعداوة للإخوان، التنظيم الذي انتموا إليه سابقا، والانحياز لمنظومة انقلابية بشكل واضح وفاضح.
أما الصنف الثاني، فإنه يعبر عن الانشقاق الاحتجاجي في إطار التنظيم الذي لا يقيم للشباب وزنا مهما، خاصة بعد أحداث ثورة شاركوا فيها وتحملوا العبء الأكبر. وتحفظ هؤلاء على أن التنظيم لم يختط منهجا ثوريا بما يكافئ الحالة الثورية.
أما مشاهد التصدع الثالث، فهو فريق آثر السلامة، ويمكن تسميته فريق المعتزلة، وبدا أيضا مع تطور الأحداث وتبني رؤى مختلفة في "مكتب الخارج"، وبعض هؤلاء الذين مثلوا أفكارهم في الداخل. أشار ذلك أيضا إلى أزمة على المستوى الفكري والحركي؛ اتخذت شكل تجاذبات تنظيمية، ووصل بهؤلاء الأمر، مع بروز حالة اختلاف جدي، إلى محاولات صلح وإلى محاولات تحكيم.
ظلت هذه المشاهد جميعا تشكل ضعفا في القدرة الاستيعابية، وبدت في هذا الشأن مواقف تراوحت بين السكوت من دون تفسير أو تجميد العضوية أو الفصل. وفي كل الأحوال، تأخر النقد الذاتي، وظلت الأزمة موجودة على حالها، بل تفاقمت.
هذه الخريطة بعد هذه الزلازل المتتالية (زلزال الثورة وزلزال الانقلاب وزلزال رابعة والنهضة)، والحالة التي آلت إليها المعارضة في الداخل والخارج، شكلت حالة مواتية لإضعاف أي حركة فاعلة للنيل من النظام الانقلابي، ولكنها كشفت في الوقت ذاته عن تلك الفجوة التي تشكلت من رحم ضعف القدرة الاستيعابية وإقرار الخطة الاستبعادية. وبداالبعض يتحدث عن أننا لسنا في حال رفاهة تمكننا من التعايش مع هذا الاختلاف أو تنظيمه، أو ممارسة النقد الذاتي والمراجعة بشكل واسع وفي أفق مفتوح. وظلت هذه التصدعات والانشقاقات مؤشرا على هذه الحالة السلبية، وتراجع الأمر إلى هدف متواضع غير معلن، وهو "حماية التنظيم"، رغم تتالي هذه التصدعات والتشققات.. لا ندري أي حماية تلك التي لم تحدث تماسكا ولم تستوعب مخالفا، وأبقت على ذوي الولاء ونفت كل صاحب رأي مختلف، وقد كان من الممكن أن تشكل هذه الحالة فرصة لممارسة نقد ذاتي فرضته موجبات الواقع وأحوال وطن تمكن منه المستبد العاتي، وتوارت قدرات التنظيم وغيره من قوى المعارضة، فأدى كل ذلك إلى ما لا تحمد عقباه.