التاريخ لا يمنح فرصا كثيرة للمجد إلا لذوي العزيمة الفذة، وقليل ما هم. وقد جادلنا بماكس فيبر قوانين الصراع الطبقي الحتمية، حيث يمكن لشخص عبقري أن يؤثر فعلا في التاريخ، ويوجه معاركه بقوة الشخصية والإرادة الفردية.. وبين يدي اللحظة سيرة البريطاني ونستون تشرشل، حيث فرضت علي السيرة مقارنة لا بد منها مع سيرة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي؛ الذي انتشلته الثورة التونسية من العدم، فلم يرتق إلى مكانة زعيم، بل غلب العرق الدساس الفرصة التاريخية النادرة، فانتهى الرجل رئيسا صغيرا يتأهل للخروج من باب صغير؛ نحو نهاية بائسة جعلت البلد العبقري بائسا يعاني مصيرا غير يقيني في أفق القرن الواحد والعشرين. لكن الأمل الكبير يولد من العدم، فالأمل هو الكاريزما.
العودة من المجهول
التونسيون، إلا قلة متآمرة، لا يعرفون كيف انتشل الباجي من العدم في فجر الثورة التونسية، ليجدوه أمامهم وزيرا أول يقود بلدا ثائرا. لقد كان اختفى زمن ابن علي، ودخل في النسيان بعد أن شرَّع (كرئيس لبرلمان ابن علي) لمجزرة التيار الإسلامي، ثم استغني عن خدماته ليحل محله مخلصون أوفياء لابن علي.
في بلد تنازعته التيارات الأيديولوجية الإقصائية، أُخرج الباجي من النسيان، وقُدم كشخص فوق الصراعات، وأفلح مع شلة من المثقفين الاستئصاليين في تسويق نفسه بثوب المخلص المتسامي عن المكسب الشخصي، وساهم غياب الزعامات الشعبية الكاريزمية في قيادة الثورة في تثبيته في الصورة.. قال البعض إنه الأفضل للمرحلة، وقال آخرون إنه الأقل سوءا من البقية، حتى كانت انتخابات 2011 وتكريس المجلس التأسيسي بغالبية من الإسلاميين الذين ألّفوا الحكومة دون تطعيمها بحاشية الباجي وأصدقائه، بما أشعره وطائفته الحضرية (أتعمد استعمال لفظ الطائفة) بأنهم سيخرجون من الباب الصغير من التاريخ، فكان أن أعلن الباجي ترميم النظام القديم ليواجه به الثورة، فكان
حزب النداء بقيادة من رجال ابن علي. وصار الباجي قائدا يعاكس مسار الثورة لصالح المنظومة.
ساهم جهل الإسلاميين وحلفائهم (الترويكا) بالحكم، وارتعاش أيديهم في مواضع الحسم، في إكساب الباجي صورة المخلص الألمعي ثانية. واشتغلت آلة الاغتيال لصالحه، فكان أن دخل انتخابات 2014 قويا وحاسما، وحكم حتى الآن بالفائض السياسي للاغتيالات السياسية. لكنه تجاوز ترميم المنظومة إلى ترميم غنائمه الشخصية، وبذل جهدا جبارا لتحويل النظام إلى نظام رئاسي، مخالفا روح الدستور الذي كان المكسب الأهم للثورة حتى الآن. وفي أفق الاستعدادات لانتخابات 2019 تجلت الحقيقة: الرجل يريدها لخلفه من بعده ولو بلي عنق قوانين التاريخ.
الانتقام من الثورة
الفرصة سنحت للمجد، لكن العرق دساس، لذلك نمر الآن بمرحلة حاسمة، فإما أن يغلق الباب على طموحات الرئيس في التوريث (ليس بالضرورة لابنه من صلبه، ولكن لشخص من طائفته الحضرية)، أو أن يعاد إلى نظام ابن علي دون ابن علي، أو نظام بورقيبة دون بورقيبة.
يستعمل الرئيس الآن كل ما في جعبته للكيد للثورة ومن يأمل منها تغييرا حقيقيا ولو بعد حين، لذلك، وبعد أن استنزف ملف الاغتيالات سياسيا وقام هو نفسه بتثليجه لمدة أربع سنوات، عاد لإثارته وتهييج الشارع السياسي به، مخالفا كل مبادئ استقلال القضاء الذي صار حقيقة تتبلور في مواقع كثيرة.. وبعد أن ذاب الصراع الهوياتي أو أوشك على نهايته،
عاد يثيره بقانون الميراث، ليقسم الناس بين مدافع عن النص الديني وبين حداثي يجسد التحديث في خلع النص الديني عن الحياة العامة.. يعرف الغالبية من الناس أن الرئيس لا يدافع عن قناعة بالتحديث والمساواة، فهو محافظ أكثر من التيار الديني الذي يناصبه العداء، لكن كيده يحمل مشروعا لتقسيم الشارع وتهييجه وصرفه عن قضاياه الحيوية في التنمية والتقدم الاجتماعي.
وكانت مناورته الأخيرة هي استقبال ألدّ أعداء الثورة في تونس، ممثل النظام السعودي الأشد بؤسا، ولي العهد السعودي، الذي يطارده العالم لجرائمه ضد الإنسانية في اليمن، ولمعاداته حرية التعبير مجسدة في اغتيال الصحفي جمال خاشقجي. وما زال في جعبة الرئيس الكثير، فهو يستعد لاستقبال وليد المعلم وزير خارجية بشار، مدمر الثورة السورية وشعبها، واستقبال خليفة حفتر، الصنيعة البائسة التي تقتل الشعب الليبي لصالح نظام السيسي وعيال زايد.. إنها عملية تأليف المحور المعادي للثورة العربية للقرن 21 (وإن لم ينطق الرئيس بعد لفظ الربيع العبري).
لقد تفتقت موهبته على إدخال تونس في لعبة المحاور الإقليمية لغرض واحد؛ هو الاستقواء بأعداء الثورة العرب على الثورة في تونس، محاولا استباق هزيمة أخيرة بدت له ماحقة ومؤذنة بنهايته السياسية كشخص معاد لشعبه. لكن هل يكفيه ذلك؟
تعديل حكومي ينهي حياة الرئيس السياسية
كان واضحا أن مطالبة الرئيس ب
تعديل حكومة الشاهد منذ ربيع 2018 هي مناورته الأخيرة لكسر طموح الدستور في نظام برلماني يلغي صلاحيات الرئيس، وكان قد نجح في ذلك بإسقاط حكومة الحبيب الصيد، لكن حكومة الشاهد استعصت عليه نتيجة طموح الشاهد نفسه، ونتيجة تمسك حزب حركة النهضة بالاستقرار الحكومي لضمان الانتخابات ضمن مسار انتقال ديمقراطي سلمي ومطابق لروح الدستور.
انكسرت المناورة السياسية، ووجد الرئيس نفسه عاريا من كل لباس ديمقراطي تغطى به منذ عودته من العدم السياسي سنة 2011، وقال البعض "موت أب الديمقراطية التونسية قبل رؤية الديمقراطية تتجسد". لم يكن ديمقراطيا، بل كان ينافق التجربة ويسايرها ليتمكن منها لصالح أسلوبه الرئاسوي المحافظ.
هكذا نفهم مناوراته الأخيرة.. لن يتم له ما يريد، والتعديل الحكومي الأخير قضى على أمله (وأمل أسرته وطائفته)، ولو أعاد خلط الأوراق بالقضايا السياسية الداخلية والاستعانة بأعداء الثورة في الخارج.
وجب الإقرار في هذه اللحظة بأن ارتعاش يد الإسلاميين في مرحلة التأسيس هو من مكن الباجي من هامش سياسي كبير، وأطمعه في تونس وفي ثورتها. لقد ناقش البرلمان تحديد سن الترشح بما يمنعه من التقدم لها سنة 2014، وتواطأ الإسلاميون في ذلك النقاش بإلغاء سقف السن، وهو ما سمح له بالتقدم. وما يجري الآن هو بعض ثمار ذلك التواطؤ. وهم أول من يعاني زقوم تلك المرحلة المرتعشة (ولن تنفعهم حجة الضغوط الخارجية)، لكن التغيير لم يعد طموح الإسلاميين وحدهم، فالقاعدة العريضة من التونسيين عافت مناورات الباجي وألاعيبه، وهي ترى فيه الآن سبب التخريب المتكرر للمسار.
والهبة الشعبية العارمة لرفض استقبال ولي العهد السعودي المجرم دلت بما لا يدع مجالا للشك على أن الثورة تنتقل إلى النفوس رغم تتالي الإحباطات.. لم تحقق الثورة كل طموحات الناس في النهوض الاقتصادي السريع، والحياة اليومية تزداد ضنكا، لكن التغيير وتجاوز عجائز السياسة ومناوراتهم الصغيرة (الحقيرة)؛ صار مطمحا جماعيا. يرى الكثيرون - وهم على صواب - أن حكومة الشاهد ليست حكومة إنقاذ اقتصادي، لكن كثيرا من العقلاء يؤمنون الآن بأن التغيير المتدرج (المفضي إلى الانتخابات) صار حلا وحيدا مقبولا. هنا ينتهي الباجي نهاية صغيرة تؤهله للخروج من التاريخ، فلم يكن له فيه مكان رغم إخراجه ذات ثورة من عدم السياسة.
بدايته لم تؤهله ليرتقي، فعاد من حيث جاء، ولن يحظى في ذاكرة التونسيين بمكانة أب الديمقراطية التونسية.. لا أب لهذه التجربة إلا شبابها الذي أثارها. ولعل من دروس التاريخ أن غياب الكاريزمات السياسية سيسمح بميلاد قيادات مختلفة لا تستند إلى تاريخ مزيف مصطنع بأدوات دعائية فاسدة. المرحلة تعري البعض، وتلبس البعض لبوس الأمل والصبر كفيل بالباقي، ومن لم يتربّ في عالم المجد والطموح ينتهي دوما صغيرا. ونحن نشهد نهايات متشابهة لزعامات مصنوعة بالأكاذيب، فحفظ بيت شعري للسموأل لا يجعل من الباجي ونستون تشرشل صاحب نوبل للآداب.