هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يخبرنا التاريخ السياسي للجزائر أن الحزب السياسي لم يكن مهما دائما، بل على العكس تماما، فجيش التحرير كان أهم بكثير كقوة سياسية من جبهة التحرير، في أثناء ثورة التحرير. التاريخ نفسه الذي يخبرنا أن فشل الأحزاب السياسية في أثناء فترة الحركة الوطنية في حل المسألة الوطنية، هو الذي أقنع الجزائريين، وهم يعيشون تحت وطأة استعمار استيطاني، بالتوجه نحو العنف الثوري، كحل أخير على حساب الحلول السياسية، بكل الأدوار التي تفترضها، وعلى رأسها الحزب السياسي والانتخابات، بما تحيل إليه من حضور للنخب السياسية، بدل النخب العسكرية، التي فرضت سيطرتها على المشهد السياسي في الجزائر من تلك اللحظة المؤسسة.
الاتجاهات التاريخية الثقيلة نفسها، استمرت في العمل بعد الاستقلال، باستثناء
ومضات قصيرة من الحياة السياسية الوطنية، التي حاول فيها الرئيس بن بلة منح أدوار
سياسية للحزب في سنوات الاستقلال الأولى. وهي المحاولة التي قام بها الرئيس
الشاذلي باحتشام كبير، في بداية عهدته الرئاسية الأولى. عكس فترة حكم الرئيس
بومدين، الذي كان الخطاب السياسي في أثنائها يفضل الحديث عن “جهاز الحزب”، وهو يتكلم
عن حزب جبهة التحرير كحزب حاكم.
جهاز الحزب الذي منح خلال تلك الفترة المهمة من تاريخ الجزائر السياسي، للنخب
السياسية المعربة التي يغلب عليها الطابع الريفي والمحافظ، عكس الإدارة والاقتصاد،
التي منحت لنخب مفرنسة أكثر عصرية، ما ولّد تلك الانقسامية التي وظفها بومدين
كأداة تسيير سياسي لتوطيد حكمه الشخصي، على حساب المؤسسات حتى وهو ينجز مهام بناء
الدولة الوطنية. الاعتراف بالتعددية الحزبية في نهاية الثمانينيات، لم يغير من
مكانة الحزب جذريا داخل مؤسسات النظام السياسي الجزائري، فقد بقي الحزب السياسي
على الهامش، حتى عندما يتعلق الأمر بقرارات سيادية تمس حياة الحزب الداخلية،
كانتخاب قيادته أو إبعادها عندما يحين وقت التخلص منها، كما ساد مع كل الأمناء
العامين لحزب جبهة التحرير تقريبا بعد الاستقلال. وتكرر منذ وقت قريب عندما أقيل
جمال ولد عباس من قيادة الحزب، الإقالة نفسها التي تعرض لها قبله عمار سعيداني
وعبد العزيز بلخادم وعلي بن فليس وعبد الحميد مهري، إلى آخر القائمة المعروفة.
بتدخل مباشر من مراكز قرار خارج الحزب. ما ينطبق على الأشخاص، ينطبق على مؤسسات
الحزب الداخلية، كالمكتب السياسي واللجنة المركزية، التي يسمع أعضاؤها بإقالة
أمينها العام في الصحافة اليومية، كأي مواطن جزائري عادي. حتى عندما تكون اللجنة
المركزية في حالة انعقاد، كما حصل عندما أبعد عمار سعيداني وعين بدله جمال ولد
عباس في 2016. الذي يحار الإعلام الجزائري في وصف حالته، هل هو مقال أم مستقيل أم
مبعد في منزله؟
واقع حال فرّخ حالة اضطراب سياسي دائمة داخل الحزب السياسي، لا تمس أحزاب السلطة
فقط، كجبهة التحرير الوطني، بل كل الأحزاب السياسية الجزائرية المعارضة أو
الموالية، التي تتعرض لعمليات “اختراق” دائمة من قبل مؤسسات الدولة، عندما تقرر
تصدير أزماتها إلى الأحزاب السياسية، كما حصل في 1999 بالنسبة للتجمع الوطني
الديمقراطي، أو جبهة التحرير في 2003. أزمات سرعان ما انتقلت إلى البرلمان، الذي
عادت إليه بعض حيويته بمناسبة هذه الهزات التي عاشتها أحزاب السلطة. أحزاب سياسية
ليس مقبولا منها الاستقلال في قراراتها، خاصة عندما تأتي هذه الاستقلالية من
قيادات تتمتع بالحد الأدنى من الكاريزما والحضور السياسي. كما حصل عدة مرات للشيخ
عبد الله جاب الله، الذي تعرض إلى ملاحقة مستمرة، أبعدته من حزب النهضة الذي أسسه في
بداية الاعتراف بالتعددية الحزبية بداية التسعينيات. ملاحقة لم تتوقف معه عندما
أسس حزب الإصلاح الذي غادره لتكوين حزب العدالة والتنمية الذي يقوده حاليا باحتشام
كبير، أثر سلبا على حضوره السياسي. واقع الحال نفسه حصل مع نور الدين بركروح، الذي
أًبعد من قيادة حزب التجديد، وغيره من قيادات الأحزاب الأخرى التي يطول ذكرها
كلها. عمليات اختراق قاومتها في المقابل، قيادات حزبية أخرى بنسب نجاح متفاوتة.
تركت آثارها على الحياة الديمقراطية داخل هذه الأحزاب، جعلت الكثير من النخب
الجزائرية، تبتعد أكثر عن العمل السياسي والحزبي التي لا تهتم به في الأصل.
سيناريوهات عاشتها جبهة القوى الاشتراكية وحركة مجتمع السلم، بعد وفاة زعيمها الشيخ محفوظ نحناح، عندما انشقت عدة شخصيات، لتكوين أحزاب سياسية ضعيفة، ومن دون تأثير فعلي على الحياة السياسية الوطنية، داخل العائلة الإخوانية، رغم الانضباط الذي ميز إطارات العائلة الحزبية تاريخيا.
ما يسترعي الانتباه هنا أن فترات استفحال الأزمات التي يعيشها النظام السياسي
بانتظام، هي التي تفرخ هذه “الانقلابات العلمية” ضد قيادات الاحزاب لإعادتها إلى
“بيت الطاعة” عندما تظهر عليها علامات استقلال، لم يقبل بها النظام السياسي حتى
وهو يعترف بالحزب السياسي قانونيا، منذ ربع قرن. صورة ازدادت قتامه هذه الأيام،
بعد ظهور علامات تصدير أزمة جبهة التحرير إلى البرلمان الذي أقيل رئيسه بشكل سيترك
آثارا من الصعب محوها على هذه المؤسسة، التي لا تتمتع بشرعية كبيرة لدى
الجزائريين. وهي الأزمة نفسها التي بدأت مؤشراتها في الوصول إلى الحكومة بعد تعرض
رئيسها إلى هجوم من قبل وزير جبهوي، ترشحه الشائعات إلى مواقع سياسية مهمة داخل
الحزب والجهاز التنفيذي.
حرب المواقع داخل هذه المؤسسات السياسية التي يبقى المواطن الجزائري بعيدا عنها،
يتفرج عنها فلا الانخراط في الأحزاب يعنيه (اثنان في المئة فقط من الجزائريين
منخرطون في الأحزاب، نسبة تقل إلى 1 في المئة فقط عندما يتعلق الأمر بالشباب، حسب
آخر الاستطلاعات)، ولا الانتخابات تهمه حتى عندما يتعلق الأمر بانتخابات يتم
الترويج لها كانتخابات سياسية مهمة، كما هو حال رئاسيات 2019 التي سيحسم أمرها قبل
إجرائها في حالة ترشح الرئيس بوتفليقة لها. انتخابات سيتحول التحدي الرئيسي فيها
إلى البحث عن مرشحين لها يكسبونها بعض الشرعية، في غياب المواطن الذي تكيف معه
النظام السياسي ولم يعد يعني له الشيء الكثير، بعد أن فقدت الانتخابات أي دور جدي
لها كوسيلة تغيير سياسي.
عن صحيفة القدس العربي