كشفت
تركيا منذ اختفاء الكاتب السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول من الأدلة ما يكفي لإدانة فريق
الاغتيال الذي قام بارتكاب الجريمة، كما أن الرياض هي نفسها اعترفت بوقوع جريمة القتل في قنصليتها، وأعلنت اعتقال المتورطين فيها، إلا أن مسرحية المماطلة ما زالت مستمرة للتستر على المسؤول الذي كلّف الفريق بهذه المهمة.
السلطات التركية تبذل جهدا كبيرا لكشف ملابسات الجريمة. وينتظر أصدقاء الكاتب السعودي وجميع أحرار العالم محاكمة المتورطين فيها، لينالوا عقابهم في الدنيا قبل عقابهم في الآخرة. ولكن هناك جهودا مضادة تبذل من أجل إخفاء الحقائق، وإفلات المجرمين من قبضة العدالة.
الجريمة بشعة للغاية. ولذلك، لا أحد يرغب في الدفاع عن المجرمين بشكل مباشر؛ حتى لا يلتصق اسمه بهم، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود من يسعى إلى الدفاع عن هؤلاء أو من أمرهم بقتل خاشقجي. بل هناك أكثر من طرف يحاول أن ينقذ المجرمين بأقل ما يمكن من العقوبة، وإن اختلف دافع كل طرف. ويسعى أحدهم إلى إنقاذ مستقبل مشاريعه، فيما يطمع الآخر في استغلال القضية لصالحها من أجل إبرام صفقات. ولعل ما شجَّع القتلة على ارتكاب هذه الجريمة، هو اعتقادهم بأن مثل هذه الأطراف لن تخذلهم طالما لديهم ما يكفي من المال لشراء الذمم.
وفي مثال للدفاع غير المباشر عن المجرمين، قال وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، إن باريس ليست بحوزتها تسجيلات صوتية متعلقة بمقتل خاشقجي، بل وذهب إلى أبعد من ذلك، ليتَّهم رئيسَ الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان باستغلال مقتل خاشقجي في إطار "لعبة سياسية". وكان أردوغان قد أكد السبت أن نسخا من تلك التسجيلات
تم تسليمها إلى فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
التأكيد على ما قاله أردوغان جاء من رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، حيث قال إنه لم يستمع شخصيا إلى التسجيلات الصوتية المتعلقة بمقتل خاشقجي، ولكن المخابرات الكندية استمعت إليها، مضيفا أن كندا مطلعة تماما على ما لدى تركيا. وكان هذا التصريح وحده يكفي ليثبت أن لودريان يكذب، دون الحاجة إلى أن تنتقد أنقرة بشدة هذيان الوزير الفرنسي وتنفي اتهاماته.
وزير الخارجية التركي، مولود تشاوش أوغلو، قال إن
"لودريان تجاوز حدوده"، وشدَّد على أن وزير الخارجية الفرنسي يجب أن يعلم كيفية التحدث عن رئيس جمهورية، واصفا تصريحات نظيره بـــ"الوقاحة". وقال: "في الرابع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قامت أجهزتنا الاستخباراتية بتزويد الاستخبارات الفرنسية بجميع المعلومات المتوفرة لدينا بشأن هذه الجريمة، بما فيها التسجيلات الصوتية، بناء على طلب الجانب الفرنسي". كما أكد رئيس دائرة الاتصال في رئاسة الجمهورية التركية، فخر الدين ألطون، رفض بلاده الاتهامات التي وجهها لودريان ضد أردوغان، وذكر في بيان أن مشاركة الأدلة المتعلقة بمقتل خاشقجي مع المسؤولين في عدة دول صديقة؛ يعكس النوايا التركية في الكشف عن ملابسات الجريمة.
هذا الرد التركي العنيف دفع وزير الخارجية الفرنسي إلى التراجع عن تصريحاته التي وصف فيها جهود تركيا لكشف ملابسات قضية اغتيال خاشقجي بــ"لعبة سياسية". وقالت وزارة الخارجية الفرنسية، بلهجة الاعتذار، إن تصريحات لودريان "
تم تفسيرها بشكل خاطئ"، مضيفة أن الوزير الفرنسي كان يقصد أنه لم يحصل على معلومات كافية تكشف حقيقة القضية، وأن حقيقة مقتل خاشقجي ليست مقتصرة على التسجيلات الصوتية الموجودة لدى تركيا.
أنقرة ترى أن هناك دولا قد تسعى إلى التستر على الجريمة والمجرمين المتورطين في اغتيال الكاتب السعودي، ضمن صفقات يتم عقدها مع الرياض، وأن تلك الدول يمكن أن تقوم بمهمة "المرافعة عن المجرمين"، وتسعى إلى إثارة التشكيك حول الأدلة التي تثبت تورطهم في الجريمة. ولكنها في ذات الوقت تتعهد بمتابعة القضية حتى يتم كشف تفاصيلها وتسليط الضوء على كل جوانبها، كما تبعث رسالة تحذير إلى الأطراف المعنية؛ مفادها أن تركيا على علم بكل تحركات مشبوهة تهدف إلى إخفاء الحقائق وعرقلة ملاحقة المجرمين.