عقب العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، جرى نقاش إسلامي واسع
حول التقريب بين
السنة والشيعة، وقام الدكتور القرضاوي بجهد كبير فيه، ثم تراجع
موقفه فيما بعد. وقام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بكل رموزه وقياداته بدور
كبير في هذا الملف، ثم تراجع هذا الدور وانزوى؛ بسبب السياسة وحدة الاقتتال الذي
تردّى برداء
المذهبية، بدءا من العراق، وانتهاء بسوريا واليمن والبحرين.
الخلاف
بين السنة والشيعة في الجوانب العقيدية والفقهية موجود وثابت، ولكن استفحل الخلاف
المذهبي على أساس سياسي وتعمق بإسالة الدماء من الطرفين. فأصل الاختلاف موجود (وهو
طبيعي بالمناسبة)، ولم يكن يحتاج الخلاف المكتوم سوى لظروف مناسبة تشعله وتجعله
نارا تحرق به المنطقة، لكن ماذا عن النار السُّنيّة - السُّنيّة التي بدأت في
التوهج مؤخرا؟
هيمن
الفكر السلفي على المنطقة منذ سبعينيات القرن الماضي تقريبا، مع النفقات الكبيرة
للمملكة السعودية على مؤلفات تروّج له. وكان المنتمون للحركات الدينية خارج الخليج
تجتاحهم عاطفة قوية، فساهموا في نشر تلك الكتب. والفكر السلفي بطبيعته إقصائي وحاد
مع المختلف، ورؤيته للنص أحادية الجانب غالبا، لكن في النهاية هيمن الفكر السلفي
(بتنوّع مدارسه) على الساحة الإسلامية بدعم الإسلاميين ومباركة أجهزة الدول
العربية، وتكشّف - فيما بعد - من حديث ولي العهد السعودي محمد بن سلمان؛ بأنهم نشروا
الفكر السلفي بطلب من دول الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وهو أمر
يشير إلى طبيعة الفكر الذي يريد "أعداء المنطقة" تسويقه فيها. ثم قامت
ثورات الربيع العربي مطلع 2011، لتحدث نقاشات حول كل شيء، وتعرّض الفكر السلفي
لاختبار حاد، وكذلك تعرضت أهم الأحزاب الحاملة له في مصر لنفس الاختبار. وفشل
الفكر السلفي في النهوض بحجته أمام نقاشات مجتمع ما بعد الثورة، وفشل الحزب في
وراثة الإخوان المسلمين أو حتى البقاء في المشهد.
قبيل
ثورة يناير، كنا نسمع عن حلقات علمية مرتبطة بالأزهر الشريف، لكنها في حقيقتها
كانت أكثر ارتباطا بالشيخ علي جمعة الذي صار مفتيا فيما بعد، ثم أصبح أحد أبرز
وجوه الأشاعرة الصوفيين بمصر، وكانت الحلقات العلمية (في مسجد السلطان حسن والجامع
الأزهر، وغيرهما من المحاضن العلمية الأشعرية بمصر) قد بدأت تنحو تجاه رد الصدام
مع السلفيين، وإلصاق الضلالة بهم. وربما كان هذا مقبولا في إطار التكوين والنقاش
العلمييْن، لكن التكوين العلمي لازمته بَذْرُ عداوة وحدّة مع المختلف؛ لا تليق
بمنهج الأزهر، ولا تليق بنقاء الصوفية، ولا تليق برصانة البنيان العلمي الأشعري،
فبدأنا نسمع كلمات كـ"المتمسلفين"، و"التيميين (نسبة لابن
تيمية)"، و"الوهابيين" (نسبة لمحمد بن عبد الوهاب)". وكان
يُراد بتلك المسميات التحقير لا التوصيف.
عقب
ثورات الربيع العربي، لجأ الساسة بمصر إلى الأزهر الشريف وشيخه الكريم الدكتور
أحمد الطيبلحل خلافاتهم مع الإسلاميين ، وقام الأزهر بواجبه على أكمل وجه، وصدرت
عنه أربع وثائق تصلح دستورا للتعايش بين المصريين. واستفاد "المنهج
الأزهري" من ذلك، ونشطت حلقاته العلمية، وأصبحت هناك مدارس أشعرية غير
تقليدية من جهة كيفية التعليم، لا من جهة المادة العلمية التي احتفظت بجذورها
ورصانتها. وكان هذا النشاط أحد التفاعلات المحمودة التي خرجت من ثورات الربيع
العربي، وأفاد - كذلك - قدوم علماء من الشام نتيجة الحرب هناك، فتداخلوا مع الحالة
العلمية الجديدة بمصر تحديدا.
استمرت
العلاقة بين الأشاعرة والفكر السلفي بكل مكوناته (سواء الجهادية أو العلمية، أو
حتى جماعة الإخوان التي تشرّب جمهورها الفكر السلفي بسبب التضييق الأمني على غير
السلفيين، وميل قياداتهم إلى ذلك الفكر وتضييقهم على كتب القرضاوي والغزالي في
المحاضن التربوية) استمرت العلاقة بشد وجذب مقبوليْن في إطار أي تجمع بشري، إلى أن
وصلنا إلى الثالث من تموز/ يوليو 2013.
أعقب
الانقلاب العسكري بمصر انقلابا آخر في حدود العلاقات السّنية - السنية، وبدا أن
المؤسسة الدينية الرسمية يتنازعها توجّهان، أحدهما لا يبغي التعمّق في النزاع
السياسي الذي سيستتبعه بالضرورة جر النزاع إلى المساحة الفكرية، وهو التوجّه الذي
قادته مؤسسة الأزهر بشيخها، والآخر كان في وزارة الأوقاف ودار الإفتاء التي أشرف
المفتي السابق علي جمعة على هيكلتها واختيار من فيها. وكان التيار الثاني داخل
المؤسسة الدينية هو الذي يسترضي أقطاب الحكم الجديد ويتماهى مع توجهاته السياسية،
وخرج خطاب "الخوارج"، و"كلاب أهل النار".. إلخ. وعلى المستوى
الفكري وجدنا مؤتمر الشيشان الذي ذهب إلى إخراج السلفيين من أهل السنة والجماعة،
وهو بالمناسبة موقف السلفيين من الأشاعرة والماتريدية، لكن شيخ الأزهر تدارك ذلك
ورفضه، ليصب ماء باردا على حميم كاد أن يشتعل.
انتقل
تيار من الأشاعرة إلى مواقف سلفية من حيث المفاصلة ورمي الآخر بالضلال، ولم يكن
ذلك معهودا من قِبَل من أهل الذوق والمعرفة والوجدان، ورأينا منهم من يتعجب من
الترحم على سلفي؛ لا باعتبار أنه خارج عن الملة، ولكن باعتبار أنه من أهل البدع
وأنه كان يتهم الأشاعرة بالضلال، ورأينا خطابا يهتم بنقد وتقريع التيار السلفي
أكثر من اهتمامه بممارسات اليهود، وهو موقف يشبه الموقف السلفي من "أهل
البدع" (حسب توصيفهم)، إذ إن جمهور السلفيين على أن الصوفية والشيعة، كذلك
أشد خطرا على الأمة من غير المسلمين، وانزلق أهل الذوق والعرفان للمشاحنات
والمجازفات في إطلاق الأحكام.
إن
النزاع السني - السني ليس في مصلحة الأمة، وواجب على أهل الفضل أن يتوقفوا عن
بَذْر العداوات ونشر البذاءات، وسيظل الخلاف قائما دون نكير من أحد. إذ هكذا جرت
سنة الله في الاجتماع، وسيظل هناك تدافع بين الأطراف كلها، لكن المرجو أن يكون
التدافع في حدود الأدب والنقاش العلمي، دون الالتفات إلى شذوذ أحدهم هنا أو هناك.
وكاتب السطور يعتز بأشعريته ومنهجية الأزهر، ويختلف تماما مع المدرسة
السلفية، بل
يوافق القائلين بفداحة أخطائها في تناولها للنص وتأصيلاتها العقيدية، لكن الخلاف
والتنبيه على مواطن الزلل لا يستلزم التشاحن والتباغض ونشر العداوات حتى لو صدرت
من المخالف. هكذا تعلمنا من أهل العرفان، وربما لو احتجب بعضهم عن إرادة الحاكم
المستبد، ستنكشف له حُجُب قد أُسدلت بينه وبين مراد ربه من ائتلاف هذه الأمة.