يحتاج المولود إلى عناية فائقة من الأم في مأكل ذلك الوليد ومشربه ونظافته، كما يحتاج لعناية أبيه وأخوته والمحيطين به بشكل كبير؛ لضعف المولود وعدم تكيفه مع البيئة المحيطة، لا سيما في زماننا المليء بالملوثات. فالكل، وبشكل غريزي، يحيط المولود بالعناية حتى يشتد عوده ويشد صلبه وتقوى مناعته، وتتغير المعاملة بعد أن يكون فتى ثم رجلا يقدر على مواجهة تقلبات الحياة ومشاكلها.. فطرة خلق الإنسان عليها، لا تبديل فيها ولا تغيير.
في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2012، أصدر الرئيس الشرعي محمد مرسي إعلانا دستوريا رآه الرجل في حينها محاولة لتحصين الثورة من محاولات الانقلاب الدستوري عليها من خلال المحكمة الدستورية العليا والمجلس العسكري المفوض من قبل الرئيس المخلوع، إلا أن هذا الإعلان لم يرق لبعض الأحزاب والتجمعات السياسية في حينها. فبعد يوم واحد من هذا الإعلان اجتمع 35 حزب وحركة سياسية ضمنت في ما بينها أحزابا وأشخاصا محسوبين على النظام السابق ليشكلوا ما عرف باسم جبهة الإنقاذ الوطني، وعلى الرغم من اختلاف أيديولوجياتهم، إلا أنهم أجمعوا على الوقوف ضد الرئيس وإسقاط الإعلان الدستوري، تمهيدا لإسقاط الرئيس نفسه.
جبهة الإنقاذ في
مصر كان بمثابة حصان طروادة الذي استطاع به الانقلاب العسكري هزيمة الثورة في موقعة الثالث من تموز/ يوليو، بل وشارك رموز الجبهة في بيان الانقلاب، ثم في حكومة الانقلاب التي حكمت مصر بعد مجزرة رابعة العدوية؛ التي استخدم فيها قادة الانقلاب أبشع آلات القتل ضد الثورة لا المعتصمين، ثم لتلتف هذه الآلة لاحقا لتقصي قادة الجبهة واحد تلو الآخر، لتكشف عن وجهها الحقيقي، ولتقول لقادة جبهة الإنقاذ إنما انتم أداه تستخدم لمرة واحدة.
مع ندم أغلب من شكل الجبهة وسعى في إسقاط الرئيس، إلا أنه مع ذلك يلام على مخالفته الفطرة السليمة للبشر، والتي تقضي بوجوب المحافظة على الوليد (
الديمقراطية)، والعناية به ومساندته حتى يشتد عوده وتقوى مناعته، وهو عكس ما حدث تماما، فقد جثم قادة الجبهة على صدر الوليد فقتلوه.
خلال الأيام الماضية، تصارعت الأحداث واتخذت القرارات وتصاعدت حدتها، حتى وصلت بين الحليفين الأمريكي والتركي لفرض عقوبات الغرض منها إسقاط النظام القائم وتقويض أركان الحكومة، وهو ما سيمتد ليمس مصالح الشعب وإرادته. واللافت هنا هو رد فعل
المعارضة التركية التي خرجت لتوها من صراع انتخابي استخدم فيه كل أنواع الأسلحة المشروعة وغيرها في إقصاء المنافس، مع ذلك تجد المعارضة الواعية تقف جنبا إلى جنب مع الرئيس وحكومته، واضعة في الاعتبار مصلحة الوطن فوق كل مصلحة.
زعيم حزب الشعب الجمهوري، المعارض الأشرس للحزب الحاكم، كمال كليتشدار أوغلو جاء رده قويا على قرارات أمريكا وتغريدات رئيسها، حيث قال كليتشدار (كل تغريدات ترامب بحق
تركيا تمس كرامة شعبنا، وهذا أمر غير صائب ولا نقبله إطلاقا.. كما لا نقبل من دولة نعدها حليفة لنا أن تتعامل مع تركيا بأسلوب عدائي)، ودعا كليتشدار إلى بناء اقتصاد تركي قوي، من أجل مجابهة التحديات الخارجية.
أما رئيسة حزب "إيي"، الوافد الجديد صاحب المركز الرابع في الانتخابات الأخيرة، والمنافسة على رئاسة الجمهورية ميرال أكشنار، فقد وقفت وقفة أكثر من شجاعة، حين قالت إن حزبها يرفض تماما إقدام الولايات المتحدة الأمريكية، أو أي دولة أخرى على معاقبة تركيا عبر فرض ضغوط على الحكومة.
مواقف المعارضة الواعية أبعدتها عن فكرة تكوين جبهة إنقاذ لتركيا للخروج من الأزمة مع أكبر دولة في العالم، ولكن موقفها كان أبعد عن ذلك، متمسكة بالقيم الديمقراطية التي تقدرها المعارضة، وترسم لها دورا مهما في النظم العاملة بها.
المعارضة في النظم الديمقراطية لا تعني هدم المعبد من أجل أن أصل للسلطة.. المعارضة التي تعرفها النظم الديمقراطية وتكلمت عنها أدبياتها تعني تقويم الحاكم للوصول للمصلحة العامة للشعب. فعلاقة المعارضة بالحكومة ليست علاقة تصادمية بالضرورة، بل قد تكون علاقة المعارضة بالحكومة علاقة توافق وتقارب وتكامل، فكلاهما ينتمي إلى نظام واحد، وكلاهما يسعى إلى تحقيق المصلحة العليا للوطن، وإن اختلفت الأساليب أو التفاصيل، وكلاهما يعمل على تعظيم دور الدولة. ولا عجب أن ترى مشاورات ومواقف متقاربة بين الحكومة والمعارضة في بريطانيا مثلاً، أو بين الحزب الحاكم في أمريكا والحزب المعارض، وإن كان حادثا في الديمقراطيات العتيقة، فما أحوج دول المُحْدَث إلى ذلك، وما أحوجنا إلى معارضة رشيدة يكون همها مصلحة الوطن لا حكمه.