هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في السياسة، ومصائر الأوطان والشعوب، ليست الأعمال بالنيات، ولم تكن، ولن تكون، وإنما الأعمال بالنتائج، «فمن ثمارهم تعرفونهم»، كما يقول السيد المسيح عليه السلام في وصف من تخالف أعمالهم أقوالهم.
فلا شك عندي في أن معظم من تصدوا لقيادة حركات التحرر الوطني في دولنا العربية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى كانوا صادقي النية والعزم، في بداياتهم على الأقل، ويسري ذلك على المرحلتين اللتين ينقسم إليهما تاريخ الحكم الوطني في منطقتنا، أي مرحلة الحكومات المدنية، قبل يوليو 1952، ومرحلة حكم الضباط الوطنيين، التي بدأت في ذلك الشهر من ذلك العام، ولكن لاشك عندي أيضا، وعند الأغلبية من مواطنينا المتخصصين وغير المتخصصين أن النهايات جاءت مغايرة تماما للبدايات، وأن محصلة الحكم الوطني «العربي» لا تزيد في حقيقة الأمر عن «قبض ريح أو حصاد هشيم»، وليس على من تحدثه نفسه بالإنكار أو المكابرة إلا أن يقارن بين أحوال عموم العرب، وأحوال من بدؤوا معهم، أو بعدهم تجربة الحكم الوطني، سواء بقيادة مدنية، أو تحت قيادة الضباط، في كل الميادين، سواء الاقتصادية، أو الثقافية، أو حتى درجة مناعة الأمن القومي، والاستقرار السياسي.
من الدول التي حصلت على استقلالها أو أقامت حكما وطنيا في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى تركيا وإيرلندا، ودول البلقان، وبعض دول أوروبا الوسطى، وهي كلها الآن تتمتع بدرجة مرتفعة أو معقولة من الاستقرار السياسي، والنمو الاقتصادي، والوحدة الوطنية، مع الاعتراف بأن بعضها تعرض لنكسات متفاوتة العمق والاتساع، في أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعدها، وفي أعقاب انتهاء الحرب الباردة، ولكنها كلها وجدت طريقها إلى الحكم الرشيد بالاختيار الشعبي الحر، منذ العقد الأخير من القرن الماضي.
ومن الدول التي بدأت تجربة الحكم الوطنى بعد الحرب العالمية الثانية تباعا، الهند ومعظم دول جنوب شرق آسيا، ثم كل الدول الإفريقية فيما بعد، ولا ننس أن إسرائيل تأسست في تلك الحقبة أيضا.
من المؤكد أن المقارنة تثبت اجمالا نجاح الحكم الوطني خارج الدول العربية، عدا بعض الدول الإفريقية لظروفها المعروفة، كما تثبت هذه المقارنة فشل الحكومات الوطنية في غالبية الدول العربية، إن لم يكن كلها، بكل أسف.
ثمة مقارنة أخرى أكثر تحديدا تثبت صحة هذا الرأي، وهي المقارنة بين فيتنام الشرق آسيوية، والجزائر العربية، فكلا البلدين خاض حرب تحرير باسلة ومطولة وقاسية وملهمة للبشرية كلها، والآن أين فيتنام وأين الجزائر؟
مقارنة أخرى أكثر تحديدا ومساسا بنا نحن المصريين، وهي هذه المرة بين مصر وإسرائيل، مع الأخذ في الاعتبار أن ضباط يوليو (الوطنيين !) استولوا على السلطة للثأر من هزيمة الجيش المصري، ضمن الجيوش العربية أمام الإسرائيليين فى حرب 1948، وذلك عن طريق بناء دولة مستقلة وحديثة وديمقراطية في مصر، وهو ما لم يحدث حتى ساعتنا هذه، بل حدث العكس، الذي حولها إلى أشلاء دولة، أو شبه دولة!.
السؤال الآن: لماذا فشل الحكم الوطني في معظم الدول العربية؟
أسهل الإجابات، وأكثرها ترددا على ألسنة العامة والحكام (ويالها من مفارقة)، هي المؤامرة العالمية المستمرة، وكأن العرب شعوبا وحكاما خلقوا وحدهم مسلوبي الإرادة، ومحرومين من الحد الأدنى للمناعة من بين جميع شعوب العالم، مع أن الصين مثلا تعرضت للحصار والتضييق والمؤامرات لأكثر من عقدين من الزمان، ولا تزال عرضة للتحرش والابتزاز، وكذلك إيران الجارة الأقرب لعرب المشرق والجزيرة العربية، وأيضا ظلت جميع دول أمريكا اللاتينية موضوعا لمؤامرات الرأسمالية والمخابرات الأمريكية حتى عقود قليلة خلت، أو كأن النهضة والتقدم يجب أن يتحققا في معامل معقمة، كما سبق لنا القول في مناسبة أخرى.
إذن تبقى الأسباب الداخلية البحتة هي سبب نكبات الحكم الوطني فى البلدان العربية، وإذا كان مفهوما أن الأسباب القبلية والطائفية وحداثة العهد بالاستقلال، ومن ثم هشاشة مؤسسات الدولة الحديثة، ومواريث ثقافة العصور الوسطى هي التى تشكل مجمل تلك الأسباب في المشرق العربي، والجزيرة العربية، والسودان وليبيا والجزائر، فإن هذه كلها لا تصلح لتفسير فشل الحكم الوطني في مصر على وجه الخصوص، بما أن مصر استثناء من تلك المثالب.
لمزيد من تأصيل هذه الخصوصية المصرية، لا أجد أفضل من وصف القاضي والمفكر والمؤرخ طارق البشري لحالة مصر عند دخول الاحتلال البريطاني فى كتابه «شخصيات تاريخية»، في فصل بعنوان «مصطفى النحاس وعصره»، فقد كتب البشري يقول: « اختلف احتلال مصر عن احتلال كثير غيرها في زمانها من بلاد المستعمرات، فعندما دخل العسكريون البريطانيون القاهرة في سبتمبر 1882 وجدوا بها دولة تتكون من مجلس وزراء وبرلمان منتخب، ووزارات ومصالح وإدارات، وجيش نظامي حديث، بني على عهد محمد علي، وخاض معارك تاريخية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن ذاته، ثم صفي في الأربعينيات، ثم أعيد بناؤه على عهد إسماعيل في الستينيات، وحارب في الحبشة، وأعالي النيل، كما وجدوا بها شرطة نظامية، وتقسيمات إدارية ومديريات ومراكز وأقسام، وإدارة محلية، ومجالس بلدية وإقليمية، وبيروقراطية حديثة تمسك بزمام الأمور، ونظم تعليم وقضاء قديمة وحديثة، فهي دولة تكامل بناؤها على مدى ثلاثة أرباع القرن، فصارت موطدة الأركان، مدعومة البنيان، كما وجد البريطانيون في مصر شعبا على درجة عالية من التوحد، تدور فيه دعوات النهوض والارتقاء من عشرات السنين السابقة، وتختمر فيه تجارب الإصلاح والبناء المؤسسي، وتقوده نخب سياسية واجتماعية ذات خبرة وأفق واسع ونظر دقيق»، انتهى الاقتباس من المستشار البشري.
من ناحيتنا نضيف إلى هذه الخصائص ما أنجزته ثورة 1919 (التى تحل ذكراها المئوية بعد بضعة أشهر) من ترسيخ لكل أفكار الحداثة، بنقلها من إطارها النخبوي إلى النطاق الأوسع الشامل لكل مواطن ومواطنة على أرض مصر، خاصة اتخاذ «المصرية»، وليس الدين أساسا للمواطنة، واعتبار الأمة مصدر السيادة والسلطة، وتحرير المرأة، وإطلاق طاقات المجتمع المدني.
دولة ومجتمع هذه خصائصهما وإنجازاتهما، وهذا هو مستواهما من الخبرات والتطور، كانا أجدر بكثير مما آل إليه الحال، فإذا اعتبر البعض عن حق أن وجود قوات الاحتلال كطرف فاعل وقوي في ثلاثية الحكم والسياسة في مصر، وانغماس البلاد بالرغم من إرادتها في معترك الصراع الدولي في الحربين العالميتين، ثم في الترتيبات الدولية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانا من أسباب فشل الحكم الوطني قبل حكم ضباط يوليو 1952، فإن ذلك ــ وإن كان صحيحا ــ لا يعفي بقية القوى في معادلة الحكم في تلك الحقبة من المسؤولية، خصوصا القصر الملكي وأحزاب الأقلية، لأن هذين الطرفين لم يسلما قط بحق الشعب في اختيار حكومته، ومن هنا اضطربت السياسة، وتدهورت الأوضاع تمهيدا لاستيلاء الضباط على السلطة.
لكن هؤلاء بدورهم سرعان ما أدخلوا مصر في حلبات الصراعات الإقليمية والدولية، وأردوها في وهدة هزيمة عسكرية شائنة أمام إسرائيل، والأخطر أنهم قضوا قضاء مبرما على كل قيم ومؤسسات الحداثة، وحولوا بمرور الوقت، وتعاقب عهودهم ما كان مشروعا للإحياء الوطني إلى احتكار سلطوي، يخشى أن يتطور إلى حكم أوليجاركي، فهل من تفسير؟
أمامنا تفسيران أراهما متكاملين، وسبق ذكرهما كثيرا: الأول هو قول مفكرنا العظيم الراحل جمال حمدان، «إن مشكلة مصر هي حاكمها، أو استمرار الفرعونية السياسية، بعد أن قضت الحداثة على مبررات وجودها».
والثاني هو قول البروفسور دانكوارت روستو مؤسس دراسات التحول الديمقراطي في الولايات المتحدة في ستينيات القرن الماضي: «إن شرط نجاح الحكم العسكري، هو بناء مؤسسات دستورية ومدنية قادرة على الاستمرار والمساءلة».
ختاما: هل يجدي أن نقول: كفى ما كان وما ضاع، ولنشرع في بداية جديدة؟
(عن صحيفة الشروق المصرية)