هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شاهدت قبل أيام الجزء الثاني من فيلم (الخارقون – 2018) للمخرج براد بيرد الذي يُعرض على الشاشات العربية والعالمية. يعرِض الفيلم لموضوعين أساسيين أولهما قدرة الإعلام على التأثير في الجماهير وأصحاب القرار، والثاني ركون العامة إلى الخوارق طلبا للنجدة والعون على تخطي الصعاب، وهو ما لخصه الفيلم في مشهد بالغ الروعة من خلال حديث شخصية (المسيطر على الشاشات) إلى الجمهور عبر برنامج تلفزيوني يسرق إشارته ويسيطر عليها. وجدت ضالتي في المشهد ليكون مقدمة المقال فبحثت عنه بمجرد خروجي من قاعة السينما. وجدت على الانترنت نسخة مقرصنة ومترجمة إلى اللغة العربية لكنني لم أجد المشهد المطلوب إلا مبتورا لم يسلم منه غير جملة أو اثنتين بلا معنى. لم يستطع النظام العربي، الذي يوجز المشهد خصوصياته ويعريها، أن يتحمل حوار شخصية كرتونية فأمر بقصّه مخافة أن يصل إلى الجمهور. كان المشهد ملخصا لعبثية ما تشهده الجغرافيا العربية على الخصوص، ولا غرابة في أمر الرقابة إن علمنا أن أولى الدول العربية التي استقبلت الفيلم كانت شاشات مصر والسعودية، حيث السيطرة على الشاشات التقليدية منها والحديثة صارت دينا يتقرب به الرقيب إلى النظام، وتقديم الحكام على هيئة خوارق، ما جاد الزمان برؤاهم الثاقبة وإنجازاتهم العظيمة، وجبة يومية على كنبة المشاهدين.
لنعد قليلا إلى الوراء...
في فيلم (الشتا لي فات – 2013) للمخرج إبراهيم البطوط، حيث يستعيد أحداث الخامس والعشرين من يناير 2011، بما فيها التعاطي الإعلامي للتلفزيون الرسمي مع وقائعها.
في غرفة الماكياج، حوار بين مسؤول إعلامي ومقدم برنامج "قلب البلد".
المسؤول: كل الفضائيات جابت صور المظاهرات واحنا لو ما جبناش سيرتها النهارده..
المذيع: حنفقد مصداقيتنا يعني؟ متقلقش يا ريس، الناس كلها عارفة أن الفضائيات ده بتهول واحنا حنقول الحقيقة بس حنقولها بطريقة تهدي متولعهاش.. بس المهم حضرتك تركز مع فرح.
ينتقل المسؤول للغرفة الثانية حيث تستكمل المذيعة فرح آخر اللمسات.
المسؤول: انهي المقدمة بتاعتك بالخبر بتاع الشهيد، وعايزك تقوليه بإحساس.... (يلاحظ انشغالها) ايه؟
فرح: مفيش.. أنا بس محضرة حاجة بفكر إزاي أربطها بالدعوة بتاعت صفحة خالد سعيد.
المسؤول: لأ.. صفحة خالد سعيد تنسيها تماما.
فرح: أنساا إزاي يا دكتور.. ده هي ايلي مقومة اليوم النهارده.
المسؤول: أيوه.. هي ايلي مقوماه واحنا عايزين نهدي.
فرح: ايلي تشوفو.
في الفيلم تقلب فرح الطاولة على الإعلام الرسمي، مع توالي أيام الأحداث وتنضم للمحتجين. انتهى الأمر بها إلى تبني عملية التوثيق للواقع من خارج الوسائل التقليدية بما يمنحه ذلك من حرية أكبر في الحركة ومن تحايل على الموانع الرقابية المكبلة للإبداع.
بعد سنوات، لم تعد الأنظمة القمعية المنقلبة على خيار الجماهير "الثائرة" تقبل الخروج عن النص الرسمي ولو من باب التنفيس عن العموم وعلى لسان أكبر أبواقها وفاء وولاء. هكذا تحولت تمنيات قائد الانقلاب بمصر في التوفر على أجهزة الدعاية الرسمية الناصرية ذات الصوت الواحد الممجد لبركات "الزعيم" و"إنجازاته" أمرا واقعا بسيطرة مخابراتية وأمنية على القنوات والصحف والمواقع، ورقابة دقيقة لمواقع التواصل الاجتماعي. ولأن السيطرة على الحاضر والمستقبل تحتاج محوا لذاكرة الشعوب فقد أطلقت ذات الأجهزة يدها طويلة في محو تراث الثورة وما وثقه الإعلام من أحداثها.
لقد ضاقت صدور أنظمة الاستبداد عن سماع صوت غير صدى ما يصدر عنها وعن أذرعها الإعلامية ليل نهار. وصار الصوت المعارض ممنوعا من الظهور في الاستوديوهات أو سجينا في الأقبية السرية منها والعلنية على حد سواء. ولأن في الاتحاد قوة، فقد اجتمعت دول الاستبداد على تجميع مواردها لتحقيق أكبر عائد ممكن من قنواتها وصحفها ومواقعها المفتوحة على طول الجغرافيا العربية على امتداد الزمان والمكان.
لم يكم من الغريب أن نرصد حجم الصرف الإماراتي على إعلام حلفائها في المنطقة في تونس وليبيا واليمن وغيرها. ولم يكن غريبا أيضا أن نشهد تحالفات إعلامية سعودية ومصرية تُتَبادل فيها الأدوار تخفيفا من الأعباء المالية واستقطابا للظواهر الحنجورية التي عاثت في المنصات الإعلامية زعيقا وصراخا، تخوينا وسبا وقذفا في الأعراض. المصلحة تقتضي التغاضي عن حفلات الردح الإعلامي التي عاش البلدان على وقعها لفترات. من كان يسب المملكة ورموزها، صار اليوم صوتها في مواجهة "الأعداء" المشتركين والمقابل عقود بالملايين. السيطرة على مجموعة أم بي سي لم تكن كافية لتروي الظمأ، فكانت اس بي سي رديفا لنشر ثقافة الترفيه على المقاس، ولو استدعى الأمر التدخل المباشر في الإنتاجات الفنية من المصدر الأساس: مصر.
في المحروسة، حيث لا صوت يعلو على صوت أحمد موسى، حجمت كل الأصوات التي خرجت عن النص الذي اعتاد "الضابط أشرف الخولي" على توزيعه على بلاتوهات المدينة الإعلامية دون استثناء. مُنِع كثيرون وتحول آخرون لتنشيط برامج الفن والاجتماع واضطر آخرو للهجرة بعيدا. لقد تمكن النظام من تكريس مفهوم إعلام "الصوت الواحد" لدرجة إشراف الأجهزة السيادية الكامل على القنوات بل تسمية متحدث سابق باسم القوات المسلحة رئيسا مباشرا لقناة. لكن الخوف المرضي للنظام من أي انفلات أو تأثر بما يصدر عن وسائل إعلام خارجية بعيدة عن القبضة الأمنية، وشهية الانقلاب للتأثير في عقول المشاهدين وصناعة رأي عام مساند أو محبط غير قادر على الفعل والمواجهة والاحتجاج، تدفعه للاستعانة بأي صوت تراه قابلا للترويج لأطروحاته مهما كانت الطريقة سوقية أو مخالفة للأعراف. توفيق عكاشة وقناة "الفراعين" عائدة للبث حسب ما يتم ترويجه من أخبار.
لم يكن للمجهود "الإعلامي" للنظام الشرق أوسطي الجديد أن يكتمل دون منع نقل اعتداءات الاحتلال بالأراضي الفلسطينية للجمهور. ولم يكتف الإسرائيليون بتخفيض جرعة الخبر الفلسطيني في نشرات الأخبار العربية وتحويله لمجرد عنوان فرعي بعد أن تصدر الأخبار لعقود، بل وافقت الهيئة العامة بالكنيست، في قراءة أولى، على مشروع قانون يمنع ما أسماه "تصوير الجنود خلال أداء المهام العسكرية" وإلا فالعقوبة خمس سنوات سجنا تغلظ إلى عشر في حال استهداف "الأمن القومي الإسرائيلي".
لقد صارت التغطية على جرائم الأنظمة الاستبدادية كما جيش الاحتلال محصنة بقوانين. لأجل ذلك، كان قصف قناة الجزيرة، بطلب إماراتي، مطروحا على طاولة الرئيس الأمريكي جورج بوش. واليوم تعاد الكرة، بعد حصار قطر، طلبا للإغلاق تحول مع مرور الوقت رغبة في تغيير سياستها التحريرية "المحرضة" على المستبدين للشعوب والمحتلين للأرض والمغتصبين للأعراض.
في فيلم (ذا بوست – 2018) للمخرج ستيفن سبيلبرج، وبينما كان الصحفيون مبتهجون بمقر الجريدة من قرار المحكمة العليا الأمريكية الصادر لصالحهم في قضية نشر وثائق حرب الفيتنام، تتلقى إحدى الصحفيات اتصالا يخبرها بحيثيات الحكم حيث قال القاضي: أعطى الآباء المؤسسون الصحافة الحرة الحماية اللازمة وفاء لدورها في ديمقراطيتنا. الصحافة وُجِدت لخدمة المحكومين وليس الحكام.
بعد عقود يعيد دونالد ترامب، حليف إسرائيل الأكبر ومعها الحكام المستبدين في العالم العربي، تكرار تجربة ريتشارد نيكسون مع فارق امتلاكه تويتر نافذة قوية للسيطرة على الشاشات.