العالم الجديد (2)

بعد أيام من كتابة المقال السابق في هذه السلسلة عن العالم الجديد، فوجئ العالم بقرار الرئيس الأمريكي فرض ضرائب على المنتجات والبضائع الأوروبية، وكتب مغردا أنه طالما أن أوروبا تفرض على بضائعنا الضرائب، سوف نستمر ما استمروا. وكأنه يقول وبالعربية الفصحى: وإن عدتم عدنا.

هذا ما فعله ترامب بأصدقائه وحلفائه المقربين، وبالطبع فعل مثله مع الصين، الشريك التجاري الأكبر لأمريكا في العالم، والتي يميل الميزان التجاري لصالحها بقرابة 400 مليار دولار.

من كان يتصور مثلا أن أمريكا ستبيع حلفاءها الأوروبيين، والذين أنفقت الخزانة الأمريكية تريليونات الدولارات من أجل صناعتهم في مواجهة الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في ما عرف بسياسة القطبين.

اليوم، وعلى ما يبدو، لم يعد الرئيس الأمريكي ترامب في حاجة إلى الحلفاء؛ لأن الحرب الباردة ولت إلى غير رجعة، تماما كما تفكك الاتحاد السوفييتي ولن يعود. وبالتالي، قد يرى ترامب والفوضويون الجدد أن العالم الجديد ليس عالم الأقطاب التي تواجه بعضها، بل عالم جديد يتم تفكيك النسخة القديمة منه والتفكير في النسخة الجديدة التي لم تتبلور بعد.

انظر إلى بريطانيا.. هي اليوم في مقدمة الخارجين من الاتحاد الأوروبي، بعملية جراحية مؤلمة، رغم أن المنطق يقول إن بريطانيا التي تقود أو تشارك في قيادة الاتحاد الأوروبي أفضل وأقوى ألف مرة من أن تكون منفردة. لكن ما يحدث يثير الشكوك حول فكرة التوحد وفكرة التحالفات التي تكلف بعض الدول فوق ما تحتمله، خصوصا فكرة المهاجرين القادمين من الدول المنضمة حديثا إلى الاتحاد الأوروبي. هذا يعني أن النسخة الجديدة من النظام العالمي، إن صح أنه سيكون نظاما، هي نسخة التفرد والانفلات والتوحش أيضا، لكن أيضا عالم القوة في أسوأ مظاهرها. فلولا القوة ما وجدنا الرئيس الأمريكي ترامب، الذي توعد رئيس كوريا الشمالية بالويل والثبور وعظائم الأمور، يعلن على الملأ أنه سليتقي رئيس كوريا الشمالية! يا إلهي هل كنت تتوقع مثل هذا أبدا.

في العالم الجديد، تقوم دولة الإمارات بصناعة الفوضى بدون تفويض من أحد في بعض المناطق، ثم تنطلق ماكينة استثماراتها للاستيلاء على الموانئ الحيوية والاستراتيجية، وتقوم بإعادة بناء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، بحيث تصبح لعبة في يد استخبارات الإمارات، وبالتالي تصبح هذه الدول مجرد ريشة في قبضة الريح الإماراتية تلعب بها وقتما تشاء.

والمثال يسري على اليمن الذي قامت القوات السعودية بغزوه دون تفويض دولي وبتحريض إماراتي، بدعوى إعادة الشرعية. والحقيقة أن التدخل كان لاحتواء الثورة اليمنية وتحكم السعودية في الملف اليمني، ثم فوجئنا بأن الإمارات هي التي تقود المشهد من وراء ستار. فلدى الإمارات سجون في اليمن وقواعد عسكرية وإرساليات استثماراتية للاستيلاء على الموانئ الرئيسية.

هذه التحول الكبير من أقطاب كبرى ودول صغرى تدور في فلكها إلى عالم القطب الواحد، ثم عالم اللا قطب على الإطلاق ثم عالم جديد، يبدو أنه عالم دول الأطراف أو "دول الهامش" التي تؤثر في دول الجوار، ثم في الملفات الكبرى كما تفعل الإمارات عبر تغلغلها في البيت الأبيض (كما شرحنا في المقال السابق) ومحاولة تأثيرها في القرار السياسي الأمريكي.

أضف إلى ذلك، أن البحرين والإمارات والسعودية شاركت في عام 1996 في محاولة انقلاب ضد أمير قطر وقتئذ، الشيخ حمد بن جاسم، والتي كشف البرنامج الوثائقي "ما أخفي أعظم"، الذي أذيع على قناة الجزيرة على جزءين"، عن حقيقة أن النظام الذي بدأ يتشكل لا يعرف سوى الهمجية والانقلاب والاستيلاء على ثروات العالم، تستوي في ذلك الدول الاستعمارية الكبرى أو الاستعمارية الصغرى، مثل الإمارات والبحرين الصغيرتين، والسعودية على كبر مساحة أراضيها.

وإذا أضفت إلى ذلك إصرار دول الجوار على محو الدولة القطرية أو استبدال نظام حكمها على أقل تقدير، رغم مرور عقدين من الزمن على المحاولة الأولى، فإن العالم الذي يتحدث عن حسن الجوار والأخوة واتفاقيات التعاون واتفاقيات الدفاع المشترك وغيره، هي مجرد أوراق يمكن تمزيقها في لحظة الشعور بالقوة والقدرة على فعل أي شيء، ولو كان مخالفا للقانون الدولي، تماما كما فعل الكيان الصهيوني الذي ابتلع فلسطين على مدار أكثر من نصف قرن شيئا فشيئا والعالم لا يحرك ساكنا، وحتى كلمات الإدانة والشجب اختفت من قاموس الدبلوماسية الدولية.

العالم الجديد الذي يتشكل ويكاد الجميع يتعرف على ملامحه هو عالم القوة والفعل لا ردة الفعل، هو عالم الفوضى؛ لأنه لا أحد يجرؤ على محاسبة القوي ولو كان بلطجيا. ولو أردت مثالا، فيكفيك أن كوريا الشمالية التي يعاديها الغرب وتحاصرها أمريكا؛ هي اليوم مدعوة للجلوس والحديث مع الأمريكان.

أخيرا، حين أرادت أمريكا التلويح بالقوة ضد كوريا الشمالية، وقفت كوريا الجنوبية واليابان ضد أمريكا، معلنة أنها ضد هذا التوجه؛ لأن هذه الدول ستدفع الثمن. وحين سأل الرئيس ترامب مستشاريه عن حجم الخسائر التي من الممكن أن تلحق بأمريكا في حال تنفيذ كوريا الشمالية تهديداتها، أدرك ترامب أن الموضوع أكبر بكثير من مجرد التغريد والتلويح بالكلام.

إنه عالم آخر، وإن لم يتشكل له نظام جديد بعد.