هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شيء من التاريخ..
في أبريل من العام 2009، غادر السيد خالد عليوة منصبه كمدير عام لبنك القرض العقاري والسياحي بالمغرب. وفي ديسمبر من العام 2011 بدأت محاكمته بتهمة "تبديد أموال عمومية واستغلال النفوذ" قبل أن يودع السجن نهاية شهر يونيو 2012. ثمانية أشهر من الاعتقال، بذل خلالها محاميه، الذي يشغل في الآن نفسه منصب الكاتب العام لحزب الاتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية، محاولات مستميتة لتمتيعه بالسراح المؤقت وضغط الحزب في اتجاه ترويج مقولة "انتقائية" المحاكمة عقابا للرجل على "تجرئه" على انتقاد ما اعتبره تدخلات للسيد فؤاد عالي الهمة في انتخاب عمدة مدينة الدار البيضاء سنة 2003 التي خرج منها خالد عليوة مبعدا عن المنصب، وهو الذي كان يطمح للتعويض به عن مغادرته لمنصب وزاري اعتلاه طوال ولاية حكومة عبد الرحمان اليوسفي. بعد الأشهر الثمانية، تمتع السجين خالد عليوة برخصة أربعة أيام للمشاركة في تشييع والدته إلى مثواها الأخير، وكان منتظرا أن يعود إلى زنزانته في انتظار استكمال التحقيق تمهيدا للمحاكمة. مددت الرخصة أربعة أيام إضافية قبل أن تتحول بقدرة قادر إلى متابعة في حالة سراح كان قاضي التحقيق رفضها ثلاث مرات سابقة. من يومها لم يستجب خالد عليوة المتهم بـ"تبديد أموال عمومية واستغلال النفوذ" لأي من طلبات قاضي التحقيق بالحضور إلى مكتبه حتى تعب الأخير من توجيه الاستدعاءات له فتوقف عن ذلك مرغما. النتيجة أن الوزير ومدير البنك السابق يعيش اليوم حرا طليقا دون محاكمة أو براءة نهائية في واحدة من مظاهر لي عنق العدالة واغتصاب مبدأ المساواة أمام القانون وربط المسؤولية بالمحاسبة.
تفصيل بسيط سقط سهوا من التسلسل الكرونولوجي أعلاه. في أثناء الجنازة تلقى المعتقل المفرج عنه برخصة استثنائية رسالة تعزية من الملك محمد السادس وصلت أصداؤها لكل ذي علاقة بالقضية فصار ما صار.
يوم 24 أكتوبر 2017
بقاعة الجلسات بمحكمة الاستئناف بمدينة الدار البيضاء، تتعالى أصوات بعض من المعتقلين وعائلاتهم منادين بحياة الملك. المعتقلون هم ناصر الزفزافي ورفاقه الذين قادوا ثمانية أشهر من التظاهرات بمنطقة الريف أشبه ما تكون بعصيان مدني. للريف في الشمال المغربي حساسية خاصة لدى السلطة المركزية لاعتبارات تاريخية بعضها يعود للفترة الاستعمارية وأخرى للسنوات الأولى للاستقلال.
وكان حادث مقتل بائع السمك محسن فكري "مطحونا" يوم 28 أكتوبر 2016 وقع الشرارة لانطلاق حراك اجتاح عددا من مدن وقرى منطقة الريف ولم ينته إلا بإعمال المقاربة الأمنية حلا وحيدا بعد فشل كل محاولات احتواء الأوضاع بسبب عدم الجدية في الطرح الحكومي لدى المتظاهرين، أو اختراق أطراف انفصالية داخلية وخارجية للحراك في اعتقاد الدولة ومؤسساتها الأمنية.
في نفس اليوم سلم المجلس الأعلى للحسابات إلى العاهل المغربي خلاصة تحقيقاته بخصوص وضعية مشاريع "الحسيمة، منارة المتوسط" بناء على طلبه بعد سنة كاملة على وفاة بائع السمك الريفي. ولأن الخطاب الملكي في عيد العرش كان رفع سقف انتقاده للـ"نخبة" السياسية عاليا قبل أن يؤكد على الأمر ذاته في خطاب افتتاح الدورة التشريعية للبرلمان منذ أيام، فقد كانت القرارات المتخذة في حجم الانتظارات لدرجة جعلت معتقلين يحاكمون لاحتجاجهم على اختلالات أثبتتها تقارير المجلس الأعلى للحسابات يهتفون بحياة الملك من داخل القفص، ويعتبرون قراراته "سديدة" تفاعلوا معها بوقف الإضراب عن الطعام كبادرة حسن نية لا تخطئها عين.
قضية خالد عليوة تفجرت أيضا بعد تقرير من المجلس الأعلى للحسابات وافتحاص من المفتشية العامة للمالية أثبتا وجود اختلالات خطيرة في التدبير المالي لمؤسسة القرض العقاري والسياحي. وبعد سنوات يعود المجلس للواجهة في قضية شغلت الرأي العام الوطني وأساءت كثيرا لصورة التجربة المغربية التي رفعت "الاستثناء" شعارا لها.
ضحايا التقرير الجديد كانوا أربعة وزراء حاليين على خلفية مناصبهم في الحكومة السابقة تم إعفاؤهم من مهامهم، وخمسة آخرون سابقون تم إبلاغهم ب"عدم رضا الملك عنهم لإخلالهم بالثقة التي وضعها فيهم" مع التأكيد على "أنه لن يتم إسناد أي مهمة رسمية لهم مستقبلا" ما يعني إعداما سياسيا في قرار غير مسبوق في الحياة السياسية المغربية. تسعة وزراء اشتغلوا في حكومة عبد الأله بنكيران ينضافون لأربعة سبق إعفاؤهم خلال الولاية السابقة قبل أن يعودوا من نافذة أحزابهم لممارسة مهام تمثيلية وطنية أو جهوية، وفي ذلك إدانة ضمنية لولاية حكومية امتدت خمس سنوات بين مد وجزر كان بطلها الأشهر عبد الإله بنكيران. مسؤولية رئيس الوزراء ثابتة في تجاوزات وضعف أداء فريقه الوزاري، وربما كان في التأكيد على استبعاد المعفيين من أية مسؤولية عمومية مستقبلية، رسالة مباشرة للرجل الطامح في ولاية ثالثة على رأس حزبه قد تعيده إلى رئاسة الحكومة التي أبعد عنها مرغما.
باستعراض الأسماء التي جرفها "زمن الصرامة"، كانت المفاجأة في استبعاد وزير التعليم محمد حصاد باعتباره وزيرا سابقا للداخلية وواحدا من خدام الدولة على مدار عقود تقلد خلالها المناصب والمسؤوليات، وكان واضحا أن الدولة تحضره لرئاسة حزب "الحركة الشعبية" في إطار إعادة هيكلتها للمشهد الحزبي. إعادة الهيكلة تلك ربما تقف أيضا وراء الإطاحة بوزير السكنى والتعمير نبيل بنعبد الله، الحليف الأوفي لعبد الإله بنكيران الذي طالما "أكل الثوم بفمه" في انتقاده لمربع مستشاري الملك وعلى رأسهم فؤاد عالي الهمة، لدرجة استدعت بيانا من الديوان الملكي حمل اتهامات للرجل أشرت على "غضبة ملكية" ظن الجميع أن الأحداث تجاوزتها. أما بقية المعفيين فقد كانت أخبارهم تتصدر الأحداث بوقائع تحيل على عدم كفاءة أو استهانة بالوضع الاعتباري للمسؤولية الملقاة على عاتقهم.
فذاك وزير للتعليم لا يكف عن ملاعبة هاتفه في استخفاف بالنواب البرلمانيين، وآخر لم يتورع عن تسريب مضامين البرنامج الحكومي للجريدة التي كان مساهما فيها، ووزيرة تدعي اشتغالها 22 ساعة في اليوم وهلم طرائف ومهازل وفضائح سارت بها الركبان ونشرتها الصحف وكأنها صيحات في واد.
الأحزاب المغربية مدعوة والحالة هذه لتجديد نخبها على أمل تقديم الأجدر بتحمل المسؤولية الوزارية بعيدا عن التسويات العائلية والمناطقية التي تحكم العملية إلى اليوم.
الإعفاء من المهام ممارسة ديمقراطية صحية لكنها تفقد أي معنى حينما تتحول إلى فعل موسمي تحت الطلب. ففي المغرب، يعد المجلس الأعلى للحسابات مؤسسة دستورية كاملة الأهلية في ممارسة الرقابة على المؤسسات والمشاريع العمومية والجماعات المحلية. لأجل ذلك يصدر سنويا عددا من التقارير تنتهي على الرفوف تنتظر من ينفض عنها الغبار. للساسة مصلحة في التغطية على تجاوزات بعضهم بعضا وللأحزاب طرقها في القفز على الحقائق وتكييف الوقائع والأحداث. انتظار "الغضبات الملكية" صار أمرا خارج الزمن الديمقراطي المعاصر ورديفا للانتظارية القاتلة لمبادرات تفعيل القوانين. أما اعتماد "الرضا الملكي" معيارا للقرب من السلطة والترقي في سلم المسؤولية السياسية فهو ممارسة تتطلب القطع معها إبعادا لكل الشبهات. وبين الغضبات والرضا شعرة معاوية لا يمكن تجاوزها إلا باستحضار الكفاءة وإعمال القانون فيصلا بين الأفراد والجماعات.
يوم الرابع والعشرون من شهر أكتوبر 2017 ليس "زلزالا سياسيا" كما يحاول البعض التسويق له، بل ممارسة اعتيادية في المحاسبة تحتاج إلى أن تترسخ منهاجا لممارسة الحكم كمقدمة للزلزال الحقيقي: تكريس حقوق المواطنة والعدل والمساواة. لأجل ذلك، رجاء لا تغلقوا القوس... مرة أخرى.