تفتحت عينا صاحب هذه الكلمات على كلمات الرئيس الراحل "محمد أنور السادات"، وهو يؤكد في خطبه أن الرخاء قادم لا محالة، وأن أهل قريته "ميت أبو الكوم" - محافظة المنوفية - لم يكونوا يُصدقونه حتى رأوا بأعينهم المياه الساخنة مع الباردة في صنابير البيوت ودورات المياه، هذا بالإضافة إلى الشوارع النظيفة المرصوفة.
وفيما كان "السادات" بصوته العريض المميز يضغط على مخارج الحروف لتبدو نبراته حازمة تشابه الصدق، كان أبي، رحمه الله، إلى جواري، يؤكد لي أن مثل هذه الكلمات استمع إليها في بواكير الشباب من الراحل "جمال عبد الناصر"، وإن اختلفتْ المُفردات، وكان التصفيق الحاد من الحاضرين كان القاسم المشترك.
وعلى نفس الطريق سار المخلوع "حسني مبارك؛" يُحدث جيلي على مدار قرابة ثلاثة عقود عن "الصحوة الكُبرى"، وتبوؤ مصر مكانتها بين الأمم، وفي المُنتصف كان "ماء الأماني" الساري في خطبه وتصريحاته هو "الرخاء" الوشيك.. وظلتْ الأحوال تتدهور في مصر إلى مدى غير مسبوق تاريخيا؛ فكان الناس يُقتلون في كل مكان حتى الطرقات في زمن "مبارك" بدم بارد؛ ومَنْ لم يمت في حوادث الطرق أو القطارات.. مات بالإهمال نتيجة زرع السموم في التربة الزراعية، ومنْ لم تهدم عليه عمارة يسكن فيها.. أعملت المعتقلات فيه أنيابها.. فيما استمرت الوعود إلى ما لا نهاية وكأنها تخص بلادا غير بلادنا وشعبا غيرنا.
ومؤخرا قرر قائد الانقلاب العسكري في مصر فرض المزيد من "العكننة" والتضييق على المصريين من جديد، فتفتق ذهن نظامه عن تخفيض قيمة "بطاقات الشحن الشحن" في خدمة الهاتف المحمول، فيدفع المشترك سعرا (100 جنيه على سبيل المثال)، تُضاف إليها ضريبة تقارب 10 في المئة، ثم مكسب التجار لتصبح قيمة الكارت (بين 111 و112 جنيها) في بضاعة قيمتها فقط (70 جنيها).
وفضلا عن أن الأمر يُحقق لـ"
السيسي" جزءا من وعيده منذ نحو أربع سنوات بجعل المُتصل والمُتلقي في خدمة المحمول يدفعان ثمن المكالمة، وبعيدا عن حاجة المصريين للمحمول لمشقة الحصول على خدمة هاتف ثابت وارتفاع فواتيره هو الآخر، وأيضا بعيدا عن أن بلدا في العالم لا يفعل ما يريده "السيسي"، فإن سؤالا خطيرا مُلحا يطرق أبواب الروح بقسوة: لماذا لم يعلن "السيسي" عبر نظامه أن سعر "كارت الشحن" صار (144 جنيها) من فئة المائة جنيه وهلم جرا؟ أي لماذا لم تكن الزيادة في القيمة المدفوعة ماديا لا بنقص الخدمة؟
هل كان "السيسي" يخشى رد فعل شعبي مثلا للأمر لو أعلنه على النحو الصريح بدلا من الغش والتدليس والنقص في المُنتج؟ أو لم يعلن قائد الانقلاب عن رغبته في إفقار المصريين مرتئيا أن العوز وقلة المال سبيل مضمون لحكمهم؟ ألم يقل في مؤتمر عام إنه ظل لعشر سنوات ثلاجته لا تعمل إلا على الماء؟ أي أنه لم يكن لديه في البيت ولو كسرة خبز زائدة ليضعها فيها، ولا يدري العقل لماذا كان يحتفظ بثلاجة إذا؟ وإن جاز الأمر في الصيف حيث ارتفاع الحرارة يدعو إلى طلب ماء مثلج، فلماذا تعمل ثلاجته في الشتاء إذا؟.. والسيسي نفسه كان يرى فيما أسماه برنامجه الانتخابي أن حل مشكلة البطالة أن "يدور" خريجون بسيارات خضار على الأحياء السكنية.. يتساوى في هذا الحاصل على مؤهل عال مع المتوسط مع صاحب الدكتوراة والماجستير وفي جميع المجالات.
الأمر له علاقة برغبة العسكريين الحكام في الإمعان في إظهار مقدار خداعهم واحتكارهم للشعب، و"السيسي" يحتاج في هذه المرحلة إلى الإعلان عن مقدار تخليه عن وعوده البراقة بمنتهى القسوة والعملية؛ سقطت الأقنعة وقائد الانقلاب يرى أنه لا داعي لمجرد الخداع، واستمرار منظومة أوهام الرخاء والحديث عنها. فالحاضر - كما أعلن - سيىء والقادم أسوأ.. لأن المصريين بالغوا الفقر، على حد قوله!
وتلك منظومة كان سابقوه من الحكام يحرصون عليها.. لكن في درجة من العلانية يحبون الاحتفاظ بها غير مكتملة.. على النقيض مما يتبجح "السيسي" به.. فتروي مصادر مُقربة من "مبارك" أنه كلما كان رئيس حكومة يأتيه قائلا إنه يريد زيادة الأسعار ويخشى من رد فعل الشعب.. ما كان من المخلوع إلا أن يقول: "ارفع الأسعار كما تريد.. هذا شعب ابن "...." لا يقطع شيء فيه". وكان يذكر لفظا نابيا.
والأمر يتناسب مع ضحك "مبارك" الهستيري وشاب يعرض عليه مشروعا للنقل يمر بالعبارات؛ بعد كارثة السلام 98 في شباط/ فبراير 2006م، والتي أودت بأرواح أكثر من 1030 نفسا مصرية.. فيما هو وحفيده الراحل "محمد علاء" مشغولان بزيارة المنتخب الوطني قبيل مبارة لكأس العالم.. ليقول "مبارك" للشاب في سخرية مريرة "عبارة زي إللي بيغرقوا دول؟!".
.. أو العبارة الأشهر التي قالها علنا قبيل إيذان الله بانهيار وجوده في الحكم.. لما طالبه أستاذ جامعي بمراجعة أمر مهم فقال على الفور: "يا دكتور أنت فاكر أني هأفر (أراجع) كل ما يحدث في البلد.. ياراجل كبر مخك!".
والأمر مقارب لما كان يفعله "السادات"، ومنه لما استعرتْ أحداث يناير 1977م، على إثر زيادته الأسعار فأمر بإخراج "مدرسة المشاغبين" من العلب، وكانت المسرحية الأشهر التي اقتبسها "علي سالم" وصارت علما بارزا لإلهاء الشباب عن هزيمة 1967م واستمرت تُمثل بنجاح لسنوات، وكان علاج "السادات" الأول للأزمة وخروج عشرات الألوف إلى الشوارع إحكام القبضة الأمنية.. وعرض المسرحية لإلهاء الشعب!
أما الراحل "جمال عبد الناصر" فلم يخالف التاليين عليه، إن لم يكن سنّ لهم النهج في الخفاء، فيُروى أن مهندسا شابا ذهب إليه بخطة لإنتاج ثلاجات وغسالات "إيديل" الحكومية بوفرة، وكانت في الستينيات من الشح والقلة بمكان، وكانت كشوف المُنتظرين للحصول على كليهما أو أحدهما ممتدة لأشهر إن لم يكن أكثر، فقال الشاب لـ"عبد الناصر" بعد أن وصل إليه بمعجزة: "لدي خطة لتشغيل الشباب العاطل وزيادة كثافة الإنتاج في "إيديل" بحيث يجد كل مشترٍ حاجته فورا". فقال "عبد الناصر": "إذا تجد الناس ما تريده.. مَنْ أراد الثلاجة أو الغسالة وحتى زجاجة الزيت.. فتتفرغ لنا نحن فـيشتغلونا".
أي أن الراحل "الزعيم" كان يريد استمرار الأحوال كما كانت عليه حتى لا يتفرغ المصريون للمطالبة بحقوقهم السياسية فيظلوا منشغلين خلف لقمة العيش.. وهي لعبة قديمة ينفذها العسكريون بجدارة في بلادنا منذ أزمنة بعيدة وإن اختلفت آليات التنفيذ.. تاب الله علينا وعلى بلادنا!