حدث في ذات انتخابات رئاسية، أن وجدت دوائر السلطة، أن الدعاية القديمة للرئيس مبارك فقدت – من التكرار- أهميتها، فكان اللجوء إلى مرحلة النشأة والتكوين!
الدعاية التقليدية كانت كلها تدور حول "الضربة الجوية"، بعد أن جرى اختزال حرب أكتوبر في هذه الضربة، والضربة في الرئيس مبارك. وليس في نشأة مبارك ما يمكن أن يمثل قيمة مضافة، لشخص "الرئيس الإنسان"، فقد كان شخصاً منطوياً، لا يخالط الناس، ولا يعده قومه عند الحساب، فلا صديق مقرب، ولا زميل جمعتهما صداقة مشتركة، فيجري استدعاؤه للحديث عن مناقب "مبارك" شاباً، فالذين عاصروه في مرحلة النشأة، يقولون إنه كان يقضي وقت فراغه بمفرده جالساً على "بيارة المسجد"، وهى البناية المعدة في باطن الأرض لتخزين مياه الصرف الصحي، وغالباً يكون بها بروز عن ارتفاع الأرض بضعة أمتار، تجعل منها مكاناً استراتيجيا للجلوس!
وقد صارت "الضربة الجوية"، "أسطوانة مشروخة"، من الإسراف في استعمالها، ولا يوجد في نشأة مبارك ما يثير الاهتمام، فتم تقديم من قالوا إنه كان أستاذ لمبارك في المرحلة الثانوية، ليتحدث في الصحف عن ذكاء التلميذ "محمد حسني السيد مبارك" الحاد، وكيف تنبأ له المعلم – لفرط تفوقه – أن يكون له شأن عظيم. وذلك رغم أن مبارك لم يوصف بالذكاء في أي مرحلة من حياته، بل كان العكس هو الصحيح، فضلاً عن أنه قضى في السنة الأخيرة بالثانوية العامة ثلاث سنوات، فقد رسب مرتين وفي الثالثة نجح بمجموع متواضع، ليمثل قول المدرس عن تفوقه الدراسي، عندما تستدعى هذه النتيجة، شهادة زور!
وفي الانتخابات الأخيرة له، كان الخطاب الافتتاحي في مدرسة "المساعي المشكورة"، التي حصل فيها على شهادة الثانوية العامة، في لفتة تؤكد بعثاً جديداً في أسلوب الدعاية، من حيث ترسيخ فكرة انتمائه للجذور، ولم يكن هكذا أبداً!
وفي الأخير، فقد وصل مبارك إلى هذا اللون من الدعاية، بعد ربع قرن من حكمه للبلاد، بيد أن عبد الفتاح السيسي، ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية للدورة الثانية، تبين أنه أفلس سريعاً، إلى حد تمرير دعاية تنتمي إلى جنس "الخزعبلات"، قبل انتهاء فترة ولايته الأولى، وعلى نحو بائس، لصنع أسطورة منه، حيث ولد ساجداً، ونظر يميناً وشمالاً مبتسماً لمن كانوا شهوداً للحظة الفارقة في تاريخ العالم، وهي تلك اللحظة التي قرر فيها أن يشرف الكون بطلعته البهية، وأن يغادر بطن أمه "الحاجة سعاد" بمحض إرادته!
لقد سئم الناس سريعاً، فكرة المخلص، الذي أنقذ البلد من الإخوان، وحافظ على هوية مصر، ونشر العدل والأمان في ربوعها، كما تحولت الدعاية القديمة التي خلاصتها أغنية "تسلم الأيادي" إلى نكتة، فالأغنية تدور في فلك أن مصر لا يصلح لها إلا ضابط جيش يحمي ترابها الوطني، فإذا بالمصريين جميعاً يقفوا الآن، على أن من فرط في التراب الوطني ومن "نيران وصنافير"، إلى جزيرة الوراق، إلى مثلث ماسبيرو، وهو قائد "جيش بلادي".. لزوم السجع!
في الوقت الذي كان فيه الناس ينظرون إلى "مانشيت" جريدة "الزمان" عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حول الأسرار التي تنشر لأول مرة عن حياة "الرئيس" السيسي، كنت أنا مهتماً بمقال رئيسة التحرير "إلهام شرشر"، وعنوانه: "روح الجيش فينا .. وكيف تسري"، والصورة الخاصة بها، هى ذاتها التي كانت تنشر أعلى مقالاتها الدينية في صحيفة "الأهرام"، كأنه لم تلتقط لها سوى صورة واحدة بـ "الطرحة"، ومعلوماتي أنها ليست محجبة، لكن ومقالها في "الأهرام" كان في الدين، فـ "الطرحة" على الطريقة البنازيرية، نسبة إلى بنازير بوتو، هي شيء لزوم الشيء!
نعلم، أن استدعاءها لأن تكتب مقالا أسبوعيا، كان في مرحلة انهيار مؤسسة "الأهرام" العريقة، والتي كان حلم أي كاتب في السابق أن يتوج حياته المهنية بأن يكون كاتباً بصحيفة كان من كتابها: "توفيق الحكيم، ويوسف ادريس، وزكي نجيب محفوظ، وعبد الرحمن الشرقاوي، وأحمد بهاء الدين"!
وكان اقتطاع مساحة لها، والانتقال بها من "محررة"، إلى كاتبة، لم يكن إلا لكونها "حرم وزير الداخلية"، تماماً كما كان ارتكاب أبغض الحلال بتحويلها من مندوبة إعلانات إلى صحفية هى صفقة اعلانات من إحدى شركات توظيف الأموال، وبدلاً من أن تكون المجاملة بنسبة أكبر لعمولتها من هذه الصفقة، قام إبراهيم نافع بتحويلها إلى صحفية وأرسل أوراقها للقيد في نقابة الصحفيين، وكانت مرحلة تدمير المؤسسة قد بدأت، وشاع معها القول: "إن هيكل بنى الأهرام بصراحة.. وأن إبراهيم نافع هدمها بهدوء"!
وكان عنوان مقال "هيكل" في "الأهرام" – فيما نعلم -"بصراحة"، في حين كان عنوان مقال "إبراهيم نافع" - فيما لا نعلم - "بهدوء". و"هيكل"، تختلف أو تتفق معه، كان رجل صحافة، في حين كان إبراهيم نافع رجل بيزنس وصفقات!
عندما قامت الثورة، وأجبرت المجلس العسكري على سجن "حبيب العادلي" على غير إرادة المجلس، تكلمت زوجته عن نفسها، وعن ما قدمته للإسلام والمسلمين، وكيف أنها نجحت في التقريب بين السنة والشيعة (إي وربي) وأخذتها الجلالة حتى أوشكت أن تقول أنها أصلحت ما بين "الأوس والخزرج"، وآخت بين المهاجرين والأنصار، وهو سياق تصلح معه هذا "الخلطة الصوفية" للارتقاء بعبد الفتاح السيسي إلى درجة المهدي المنتظر، فكل من شاهده من أول "الداية" السيدة "رضينة" زوجة إمام المسجد، إلى شيخ المقارئ المصرية الشيخ الحصري، أكبرنه، وقالوا حاشا لله ما هذا بشر، ككل البشر!
ربما كانت "الزمان"، هي الصحيفة الوحيدة، التي حصلت على الترخيص القانوني بعد الانقلاب العسكري، بجانب صحيفة أخرى مؤسسها في السجن الآن بتهم نصب، ونحو ذلك!
والترخيص القانوني بإصدار صحيفة في ظل حكم الاستبداد ليس إجراء قانونياً، ولكنه امتيازاً أمنياً، والجهات التي بيدها "عقدة الأمر"، كانت تعلم أن هذه الصحيفة خاصة بزوجة "العادلي" المسجون والذي لا يزال يحاكم في قضايا فساد، وكذلك قضايا قتل المتظاهرين، ومع ذلك منحت الترخيص بسهولة، ليكشف هذا عن العلاقة غير المفهومة بين العسكر والرجل، وتبدو هناك تفاصيل على الأقل غير مفهومة لنا!
لقد كان وزير الداخلية – أي وزير داخلية – هو صاحب الكعب العالي في مصر، ليس فقط مع وجود مجلس عسكري متهالك بقيادة المشير محمد حسين طنطاوي، لكن مع وجود قامة مهمة بحجم محمد عبد الحليم أبو غزالة أيضا، عندما كان وزيراً للدفاع!
مبارك لم يكن يحكم بالجيش، ولكنه كان يحكم بالشرطة، وكان تقرير ملازم أول في مباحث أمن الدولة يتحكم في مصير رتب الجيش العليا والسفلى، وكان أعضاء المجلس العسكري يعلمون أن وزير الداخلية يراقب هواتفهم، ولم يكن بمقدورهم أن يتبرموا من ذلك، ولأن مبارك، لم يثق في قدرات وزير داخلية كما وثق في العادلي، لقربه من جمال مبارك ووالدته، وكان أداة سوزان مبارك في بعض العمليات القذرة، ولهذا فإن هذا الوزير يبالغ في استخدام الصلاحيات الممنوحة له، وعندما قامت الثورة كان قرار اقتحام مقار بعينها لمباحث أمن الدولة لحصول المجلس العسكري على التقارير والملفات والتسجيلات التي تخصهم، وباستدعاء الثوار كغطاء لهذا التحرك!
وبعد هذه "العملية النظيفة"، كان الاتجاه هو تجريس "حبيب العادلي"، فقد نشر أن الثوار عثروا على حجرة نوم في الجناح الخاص به بمقر مباحث أمن الدولة في مدينة نصر، وبالغرفة ملابس نوم نسائية، وإلى الآن لا نعرف الحقيقة في هذا الموضوع، لكن كان من الواضح أن من أتخذوا قرار الاقتحام، هم من يديرون حملة التشهير!
بيد أن اللافت أن هذه الحملة كانت، و"العادلي" في السجن، ولم يتم سجنه إلا بضغوط بذلت من قبل الثوار على المجلس العسكري الحاكم!
فبعد الثورة كان يُنشر في الصحف ما يفيد أن "حبيب العادلي" متحفظ عليه لدى الجيش وهناك يُسأل "سؤال الملكين" في كل شيء، ويجري الانتقام منه لقتله الثوار.. أليس الجيش هو من حمى الثورة؟ إذن من الطبيعي أن يؤلمه قتل الثوار!
وبعد أكثر من شهر، طل "الوزير السابق" عبر جريدة "المصري اليوم" وهو يعلن أنه ليس مقيد الحرية، ولكنه في منزله يعيش حياته بشكل عادي، عندئذ ثار الثوار على هذه الحماية التي يسبغها المجلس العسكري على الوزير الفاسد الذي قتل المتظاهرين، وتحرك المجلس العسكر مضطراً للقبض عليه، وقد أدين في البداية، لكن بانقلاب العسكر، تمت تبرئته من كل الجرائم الخاصة بالثورة والثوار، ولم تتبق سوى قضية فساد مالي، يمكن تسويتها بمقتضى قانون التصالح الذي وضعه السيسي!
وقد صدر حكم بتأييد إدانته، فاذا بأجهزة الأمن تتقاعس عن اعتقاله، تنفيذاً لحكم قضائي، ونعلم أن تركه خارج السجن، ليس قرار الأجهزة، أو حتى قرار وزير الداخلية، ولكنه قرار السيسي شخصيا، فماذا في الأمر يجعله في هذا الوضع، وهو صاحب الكعب العالي على قيادات الجيش، الذي وضع هواتفهم تحت المراقبة!
ما علينا، فعندما تكتب حرم الوزير عن روح الجيش التي تسري فيها وكيف تسري؟ وتخصص عدداً من صحيفتها لتدشين السيسي ولياً من أولياء الله الصالحين، فتوقظ الموتى، وتستدعى الأرواح من "الداية" إلى "نجيب محفوظ" إلى الحصري، فإن هذا أمر لا يمكن استيعابه بسهولة، حتى وإن صدر من جهة "مندوبة إعلانات" سابقة، تجيد فن الصفقات التجارية!
فالمنشور، جاء على لسان مصدر رفض ذكر اسمه، وهو مقرب من والد السيسي، والسيسي يعرفه جيداً، كما جاء على لسان المصدر، وإزاء هذا الادعاء كان ينبغي أن تكون لمؤسسة الرئاسة كلمة إن كان الأمر جرى من وراء ظهر المفدى، وقصة حرية الصحافة التي سمحت بتمرير هذا العبث لا تنطلي على أي صريخ ابن يومين، فالمطابع الصحفية في ظل الانقلاب العسكري في قبضة المخابرات الحربية، وقد تطور الأمر فلم تعد الرقابة بعد عملية الطبع، كما حدث في السابق وجرى فرم أعداد صحف بعد طباعتها، فالرقابة قبل الطبع، ومؤخراً تم وقف طباعة عدد جريدة "البوابة" لنشرها خبراً خاصاً بتقاعس وزارة الداخلية عن القبض على "العادلي"، كما صودر عدد من جريدة "المصريين" قبل الطبع أيضاً!
فطباعة هذا العدد من جريدة "الزمان" – والحال كذلك- كاشف عن أن ما نشر متفق عليه مسبقاً، لصناعة المرشح المشمول بروح القدس، فليس عنده انجازات يقدمه للناخبين، فضلاً عن أنه لم يعد "مرشح الضرورة"، وهو الاصطلاح الذي صكه محمد حسنين هيكل بكل ما عرف عنه من قدرة على ممارسة التضليل اللفظي، ليعفيه من مهمة تقديم برنامج انتخابي!
الآن لم يعد السيسي "مرشح الضرورة"، فليكن هو الاختيار الإلهي، فقد نزل من بطن أمه ساجداً، والتفت يميناً ويساراً، مبتسماً للجماهير المحيطة، ولم يتبق إلا أن يقال إنه صلى بهم وختم الصلاة، ثم قال إني داع فأمنوا، فرفعوا أيديهم للسماء في خشوع، وبكى حتى ابتلت لحيته قبل أن يحلقها عندما التحق بالكلية الحربية!
لم يعد أمام القوم، إلا أن يشيدوا ضريحا للعبد الصالح "عبد الفتاح السيسي"، يذهب إليه طالب الثانوية العامة فينجح، والمربوط في "ليلة دخلته" فيتمكن من العبور وتحطيم خط بارليف، والعانس فتحل عقدتها!
بالمناسبة في مسقط رأسي بالصعيد، كانوا يطلقون على "ليلة الدخلة"، ليلة العبور، ويسألون العريس: هل عبرت؟!، ويقال لمن أنجز المهمة المناط به انجازها: "عبر"!
وسيكون للضريح – بالتالي – مهمة جليلة في جمع النذور لصالح صندوق "تحيا مصر"!
مقال مدهش ، رائع ، تبارك الذي فتح عليك بهذا الاسلوب وأتمدك بهذا البيان ، لقد أعجبتني وأطربتني وأضحكتني هذه الجملة "والمربوط في "ليلة دخلته" فيتمكن من العبور وتحطيم خط بارليف"