هلّل كثير من
اللبنانيين لنجاح الصفقة التي أبرمها
حزب الله مع جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقا) في منطقة جرود
عرسال. هذه الصفقة التي تمّ التوصل إليها بعد أيام قليلة من بدء الحزب هجوما على مواقع جبهة فتح الشام المنتشرة في منطقة جرود عرسال الحدودية.
أولى مراحل الصفقة تمثلت بتبادل جثامين قتلى لحزب الله كانت بحوزة جبهة فتح الشام، مقابل جثامين كان يحتفظ بها حزب الله لقتلى من الجبهة. المرحلة الثانية تمثلت بتبادل ثلاثة أسرى من حزب الله كانوا لدى جبهة فتح الشام مقابل ثلاثة موقوفين طالبت بهم الجبهة كانوا في السجون اللبنانية. أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فتتلخص بانتقال مسلحي جبهة فتح الشام ومن يرغب من النازحين السوريين من منطقة جرود عرسال إلى منطقة إدلب الخاضعة لسيطرة الجبهة، ويكون ذلك مقابل إطلاق الجبهة سراح أربعة أسرى آخرين من عناصر حزب الله. بذلك يكون حزب الله قد طوى صفحة جبهة فتح الشام من المنطقة الحدودية اللبنانية السورية بشكل نهائي، لكنه يطوي مع هذه الصفحة صفحة أخرى من صفحات إساءته للدولة اللبنانية والنيل من هيبة مؤسساتها وكرامة جيشها.
فبعيدا عن التهليل والتصفيق الذي حظي به نجاح الصفقة، كان لها جانب مظلم كان واضحا وجود توجيه رسمي وإعلامي وشعبي بتجاهله وغضّ الطرف عنه.
بدأ مسار الإساءة للدولة اللبنانية حين رفع حزب الله شارة بدء معركة تحرير جرود عرسال من مسلحي جبهة
تحرير الشام. جاء ذلك دون وجود أي قرار سياسي من الحكومة اللبنانية أو أي من مؤسساتها الأمنية والعسكرية بخوض المعركة. لكن حزب الله، وكما في مرات سابقة، جرّ الجيش اللبناني إلى معركة لم يخطط لها وهو غير مستعد لخوضها ولم يكن يريدها. لكن الجيش اضطر للتعامل مع الأمر الواقع، فانتشر في المناطق المتاخمة للمنطقة التي خاض فيها حزب الله معركته، وعمل على منع تسلل مسلحي جبهة فتح الشام إلى مخيمات النازحين القريبة من مراكز الجيش. لم يقتصر توريط الجيش على ذلك، فالمرحلة الثانية من معركة تحرير جرود عرسال تتضمن تحرير منطقتيْ رأس بعلبك والقاع من مسلحي تنظيم الدولة (داعش). وقد أعلن حزب الله أنه سيترك إنجاز هذه المهمة للجيش اللبناني، الذي لا يُعرف مدى جهوزيته لخوض معركة مشابهة.
لم يكتفِ حزب الله بجر الجيش اللبناني إلى هذه المعركة، بل إنه نجح بجر القضاء كذلك. فالصفقة التي عقدها مع جبهة فتح الشام تضمّنت إفراج السلطات اللبنانية عن متهمين يقبعون في سجونها دون أي مسوّغ قانوني أو مبرر. بهذه الخطوة، كشف حزب الله أن نفوذه في الدولة ليست فقط على السلطة السياسية والعسكرية، بل كذلك على السلطة القضائية، وهي سابقة خطيرة تحصل لأول مرة، وتفتح الباب لعقد مزيد من الصفقات على حساب هيبة الدولة واستقلال قضائها.
لطالما طلب حزب الله من الدولة اللبنانية التنسيق والتواصل المباشر مع النظام السوري، بذريعة تأمين عودة قرابة مليون ونصف مليون نازح سوري إلى مدنهم وقراهم. لكن مطالبة حزب الله دائما كانت تجابه برفض الدولة اللبنانية انسجاما مع مبدأ النأي بالنفس الذي توافقت عليه القوى الأساسية، كمخرج لتجنب الخلافات فيما بينها إزاء ما يجري في
سوريا. لكن حزب الله ومن خلال الصفقة التي أبرمها مع جبهة فتح الشام حشر الدولة اللبنانية في الزاوية، وأرغمها على التواصل والتنسيق المباشر مع النظام السوري لتأمين انتقال آلاف النازحين من منطقة جرود عرسال إلى منطقة إدلب. وهو بذلك كسر الحاجز النفسي الذي كان قائما، وفتح الباب أمام المزيد من التواصل والتنسيق الرسمي مع النظام السوري في مخالفة للتوجّه الرسمي للحكومة.
انتصر حزب الله في معركته على جبهة فتح الشام في جرود عرسال، لكنه انتصر كذلك على الدولة اللبنانية، ووجّه صفعة مؤلمة لمؤسساتها وكرامة جيشها واستقلال قضائها.