لا يمكن فصل الاتفاق الأمريكي الروسي حول جنوب غرب
سوريا عمّا يجري في المنطقة العربيّة، وقد لا نجانب الصواب حين نزعم أنّ الاتفاق هو إحدى ثمار الخلاف العربي.
ورغم فوائد الاتفاق على السوريين المنكوبين في الجنوب السوري (درعا، القنيطرة)، إذ يتيح لهم، ولو مؤقتا، نوعا من الحياة الطبيعية، ويوقف مسلسل جرائم النظام إلى حين، إلّا أنّ له تبعات خطيرة على الوضع السوري خصوصا والعربي عموما. ومصدر القلق نابع من الأسباب الحقيقية التي عملت على إنجاز هذا الاتفاق. فكما أسلفنا، فقد كان الخلاف العربي عاملا وسببا لهذا الاتفاق إضافة لعوامل كثيرة أخرى ترتبط هي الأخرى بالخلاف العربي، منها:
- وصول القوى المتصارعة على الجغرافية لحالة اللاحسم، فثمة يقين عند الغالبية أن الصراع الدائر لا يحسم عسكريا، فقد استنزف الصراع الدموي الأطراف جميعا، وباتت أكثر تقبلا للهدن، وغدت الأطراف السورية (النظام، المعارضة) نتيجة إنهاكها؛ أسيرة اللاعبين الإقليميين والدوليين.
- نية الولايات المتحدة وروسيا تقليص دور اللاعبَين الإقليميين القويين: تركيا وإيران. إذ لا يرضى الروس والأمريكيون، ولا يسمحون بامتداد النفوذ الإيراني والتركي على حسابهما في سوريا.
- تحقيق الأمن القومي لإسرائيل. فمع اشتداد وطأة المعارك على القرب من حدود فلسطين (إسرائيل) الشمالية، وتكرار سقوط القذائف، توجّسَ الإسرائيليون خيفة من سيطرة الإسلاميين المتشددين أو المتطرفين أو اقتراب حزب الله والإيرانيين من الحدود، فالطرفان لا يُؤمَن جانبهما من قبل إسرائيل، ولا يمكن التكهن بتصرفاتهما لاحقا. فكان لا بدّ من اتفاق ما يُؤمِّن الحماية المؤقتة لإسرائيل، بانتظار التسوية النهائية حماية تشبه تلك التي أمنها نظام الأسد قرابة نصف قرن للإسرائيليين.
ويبرز هنا غياب الدور العربي تماما، وكأن الاتفاق يجري في دولة تقع في أمريكا الجنوبية أو غرب أفريقيا، وذُكِر الأردن في الاتفاق فقط كتابع وضامن وضاغط على طرف المعارضة. فالخلاف العربي لم يجعل دور العرب محدودا وثانويا فحسب، بل أسهم - وما يزال - في إضعاف موقف المعارضة الوطنية السورية، مما سمح بتمرير مشاريع الآخرين، وتقوية التنظيمات المتطرفة، ودعم موقف الأسد.
فالخلاف العربي الذي كان تحت الطاولة سابقا، وأجهض ثورات الربيع العربي مؤقتا، حال دون اندماج المعارضة السورية في جسم عسكري واحد له رؤية سياسية مستقبلية واضحة، إذ جهدت الدول في شراء الذمم، ولم تجهد نفسها بدعم الخيار الأول والحقيقي للثورة السورية.
في المقابل، نجد الاتفاق الأمريكي الروسي يبرم رغم اختلاف الرؤية للبلدين وتنافسهما، بل وصراعهما دوليا في قضايا كثيرة، حيث نظرا لما يجمعهما من مصالح مشتركة، بينما نجد الساسة العرب يخترعون أزمات وخلافات تدمر المنطقة وتذهب بمصالحهم وتستهدف وجودهم في وقت لاحق.
ويستحضرنا هنا وصف كبير الباحثين في مركز العلاقات عبر الأطلسي "روبرت هانتر" حول الأزمة
الخليجية؛ بأنها نوع من التلاعب من الدول الأربع. وتبدو الصورة أكثر سوداوية عندما نسمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقول: أبلغت السعوديين بأنني لن أشارك في قمة الرياض ما لم يدفعوا مئات مليارات الدولارات لشراء الأسلحة الأمريكية، وعندما تؤكد صحيفة واشنطن بوست نقلا عن مسؤولين بالمخابرات الأمريكية بأنّ الإمارات وراء اختراق وكالة الأنباء القطرية؛ خلاف جعل العرب يتحولون بامتياز من فاعل مؤثر في منطقتهم إلى مفعول به يتحمل كل عمليات النصب والابتزاز الواقعة عليه.
وقد أعطى الخلاف العربي الأطراف الأخرى مطلق الحرية في رسم الخارطة، فالرئيس الأمريكي ترامب ضمن بهذا الاتفاق أمن حدود إسرائيل الشمالية، وحجّم النفوذ والوجود الإيراني في منطقة معينة على أمل تحجيمه في مناطق أخرى من خلال تسويات معينة يبدو أن الروس يتوقون إليها أكثر منه.
وبالموازاة، نجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحقق ما سعى إليه منذ اللحظة الأولى للتدخل في سوريا، فالاتفاق اعتراف أمريكي صريح بالدور الروسي في سوريا، مما يمكّن
روسيا من اللعب والمساومة السياسية في ملفات أخرى.
فالاتفاق حقيقة تجربة للأمريكان والروس للمضي قدما في اتفاقات مستقبلية تحفظ مصالح الطرفين، وتتجاهل المصالح العربية كما السورية تماما، ونعتقد أن الأمور ستتضح جليا عقب معركة دير الزور، فهي ستحكم لحد بعيد على مستقبل التفاهمات الروسية الأمريكية.
ولا بد من الإشارة إلى أن الاتفاق ليس نصّا مقدسا لا يمكن تغييره من قبل السوريين والعرب، وخاصة إذا حُيّدت مسائل الخلاف في سوريا على الأقل، بما يضمن لهم الحد الأدنى من المصالح، فالرئيس الأمريكي يعيش وضعا مأزوما في الداخل الأمريكي ولا سيما فيما يتعلق بالعلاقة مع الروس. فالحذر سمة أي اتفاق أو علاقة مع الروس، والرئيس الروسي يدرك أن قدرات بلاده في سوريا وصلت لآخر الجدار، وخاصة إذا بسطت أمريكا نفوذها على دير الزور. كما كبّلت روسيا نفسها شمالا من خلال تفاهماتها مع تركيا، ومن خلال إدارة الكرد لهم ظهرهم لصالح الولايات المتحدة، مما زاد من حاجة الروس للأتراك.