قضايا وآراء

الجسر الموصول بين الإعلام والثقافة

1300x600
يُحسب للقرن العشرين ريادتُه في توثيق الصلة بين الفعل الثقافي والنشاط الإعلامي. فالثقافة والإعلام تلازما لعدة عقود، بيد أن صلتهما توطدت أكثر مع تعاظم التطور العلمي التقني والمعلوماتي الكبير الذي شهده ميدان الاتصالات في القرن الماضي ومطلع الألفية الجديدة، وأضحى الإعلام، بمختلف طرائقه ووسائله، الوعاء المناسب والاكثر سعةً لحمل رسالة الثقافة، بل إن تفاعل الإعلام مع الثقافة وتوحدهما في رسالة مشتركة أسهما لاحقاً في التداخل والتنافذ وصعوبة التمييز بينهما.

فالمثقف الداعية، أو الداعية المثقف، لم يعد يمارس دورَه من منبر خطابي بلغة مباشرة نحو أتباعه ومريديه، بل صار عملُه مؤسسياً، جَمعياً، ومُستنِداً الى وسائل انتشار مُتعددة الامكانات، وشديدة التأثير. فهكذا، دخلت تَقانةُ الاتصال المتطورة لتُدعم الثقافة وتجعلها أكثر إغراء وتواجدا وانتشارا، في عالم مُبهر للصورة الواسعة ومستدامة الحضور. نحن إذن أمام عالم سحري للإعلام السمعي البصري الذي أغرق العالم في ثلاثية الفورية، والتنوع والانتشار. واقتربت الثقافة، في إيقاعها اليومي، من كوكبية الإعلام، وتمازجت معه، لتبني نمطاً جديداً من الغايات والمصالح. وربما أضحى كل ذلك يُقارب منظومة التجارة، وجعلها محكومة أحياناً بقوانين السوق في العرض والطلب. ومع ذلك، يمكن للتطور العميق الحاصل في قطاع الإعلام ان يكون عضُداً في حمل رسالة الثقافة، كحاجة إنسانية، من محرابية النخب والمثقفين إلى فُسحة واسعة من التداخل والمشاركة الجماعية بطابعها الجماهيري، المُتسمة بالتنوع والتفاعل. فمن اللافت للانتباه أن صار ردُّ الفعل على المنتوج الثقافي يعود سريعاً على صانعه، بالنقد والمراحعة والتقويم، وقد زاد كل ذلك في إغناء العمل الثقافي وتنوعه، وحرصه على التواصل الدائم. مقابل ذلك، تداخلت الثقافة مع إثراء الوسائل الإعلامية وتنوعها، وأحيانا مع حِرَفية الإعلام المُلتبِس مع الدعاية والتبرير والتزويق، والمُنشَّط دوماً بجرعات التزييف للواقع.

فهكذا، امتزجت رسالة الثقافة مع صناعة الإعلام، وتضاعفت العلاقة المصلحية بينهما بالحاجة المتبادلة بينهما. تنزل الثقافة عن كينونتها المُنزهة عن الشرور، والإعلام الذي يرتدي في كل وقت وزمان حُلة المصالح والغايات، وغير البريء أحيانا من الشرور والآثام، والمدافع عن "الشيطان" في أحيان أخرى، وفي كل ذلك تشويش وتداخل بين القلم والسيف، وبين عُذرية الكلمة وفضائحية الدعاية. بيد ان المثقف قد يضطر، كي يضع بضاعته في سفينة الإعلام ويُبحر بها نحو عوالم أوسع، إلى أن يُجامل الإعلام، ويتوافق مع شروط برفقته، وبالتالي قد تنتقل عدوى الفساد المتوافرة، مع الأسف، في رسالة الإعلام، إلى رسالة الثقافة، ويتحول المنتوج الثقافي إلى ما يشبه الإعلان التجاري في مضمونه وغايته. فقد نرى أحياناً أجمل القصائد وأعذب الأغاني تلتوي وتُهان كي تُحول وتُصاغ من أجل ترويج مبتذل لمسحوق تنظيف منزلي، أو قد يتنازل المثقف عن مواقفه المبدئية لصالح إستثمار مساحة من النشر، أو الظهور على شاشة التلفاز، ويتوافق مع شروط الرسالة الإعلامية في التزويق والإبهار على حساب الموقف والمضمون، ويَستخدم الإعلام الثقافة، عوض أن تُوظف الثقافة إمكانيات الإعلام لنشر رسالتها.

ومع ذلك، تقتضي الموضوعية الإشارة إلى أن المكاسب التي حققتها الثقافة مع تزاوج العلاقة مع الإعلام كانت ربما أكثر من خسائرها، ويكفي أن نفتح لحظة واحدة صفحة جهاز الحاسوب، لنُطل على شبكة الإنترنت الواسعة بكل صَيدها الثمين من الفرائد والنفائس، ومن السفر الممتع في صفحات الكتب والمراجع، ومن التواصل مع كل إبداع في أنحاء العالم، لنُدرك ماهية فائدة واحدة فقط من الكثير من الفوائد المنتظرة لدعم الإعلام للعمل الثقافي.

يُصبح الفساد في قطاع الثقافة بواسطة الإعلام أكثر خطورة وتأثيرا على التنمية، حين تتم مَأسسته بالتنظيم والانضباط والتقنين، أي حين يغدو الإفساد عملا منظما، مُمولا، ومبرمجا. فقبل عدة سنوات علّق "زكي نجيب محمود" على الالتزام تجاه مبادئ المثقفين بأنه "دستور المثقفين" قائلاً: "فإذا سألتني: هل يكون لرجال الفكر والأدب والفن دستور يلتقون عنده جميعاً، على اختلاف ما بينهم من وسائل التعبير، وعلى تباين ما تضطرب به أنفُسهُم وقلوبُهم وعقولُهم من مشاعر وأفكار؟ أجبتك: نعم، يكون لهم دستور ذو مادة واحدة هي أن يصدر كل منهم عن ضميره صدورا صادقاً وأميناً، فيُخلِص لنفسه وللناس".

مقصدُ الإشارة إلى التحديد أعلاه التاكيد على أن هناك نزوعا متزايدا، وقد كان موجودا على الدوام، نحو تعليب (التعبير لروبرت شيلر) الوعي وبناء أطر فكرية وقيمية له، قوامُها بث روح النكوص والارتداد، وإشاعة العدوانية، وغرس الكراهية، وتمجيد القوة وأوهام التفوق العرقي ومبررات القمع. والحال، أنها نزعة، كما وسمتها بعض الكتابات بـ"التعبير الأكمل عن انحلال العقل والعقلانية وانعدام الثقافة وضياع الأفكار". فدون التدقيق في هذه القضية، نشير إلى أن الغرب مارس ضد العالم الآخر، وبشكل خاص ضد العرب، عملية إجلاء قسرية لمواقع الثقافة الوطنية والقومية المُحصنة بالرؤى السيادية. ولذلك، نرى أن الهجوم الثقافي على المحيط العربي؛ كان أولا باتجاه الموروث الثقافي العربي، عبر استهداف القاعدتين المرجعيتين الأساسيتين في تشكيل خلية الثقافة والمثقف العربي، وهما مرجعية الفكر الإسلامي (بتياراته السلفية والإصلاحية والوَسطية) ومرجعية الثقافة المحلية والقومية، ومن جهة ثانية نحو المثقف ذاته أو نفسه، في إطار تعطيل دور النخبة الثقافية في بناء ثقافة عربية مستقلة، وتسويق عزل المثقف عن السياسة، وإفراغ مفهوم الثقافة، تاليا إشغال المثقف بوظيفة الثقافة، وليس بمضمونها وأهدافها.