انتهى الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية في تركيا، ولكن الجدل حوله لم ينته بعد، بل هناك نقاش تثيره الجبهة المعارضة للتعديلات حول نزاهة عملية التصويت، وآخر يدور حول الأسباب التي أدت إلى تراجع نسبة التأييد للتعديلات الدستورية عن مجموع الأصوات التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية معا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
حزب العدالة والتنمية حصل في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على 49.50 بالمائة من أصوات الناخبين، فيما كانت نسبة الأصوات التي حصل عليها حزب الحركة القومية 11.90 بالمائة. أي أن مجموع الأصوات التي حصل عليها الحزبان في تلك الانتخابات بلغ 61.40 بالمائة. ولكن نسبة الأصوات المؤيدة للتعديلات الدستورية التي دعمها الحزبان جاءت 51.41 بالمائة، وفقا للنتائج غير الرسمية التي أعلنتها اللجنة العليا للانتخابات، ما يعني أن الفارق بين الأصوات التي حصل عليها الحزبان في الانتخابات الأخيرة والأصوات التي وافقت على التعديلات الدستورية حوالي 10 بالمائة.
من المسؤول عن هذا التراجع؟ يبحث المحللون منذ مساء الأحد عن جواب لهذا السؤال، في ظل تفسيرات مختلفة لكون الفارق بين الأصوات المؤيدة للتعديلات الدستورية والرافضة لها ضئيل. وهناك من يحمل حزب الحركة القومية مسؤولية عدم تجاوز نسبة الناخبين المؤيدين لحزمة التعديلات 51.41 بالمائة، ويرى أن حزب العدالة والتنمية وحده حصل على هذه الأصوات في الاستفتاء الشعبي، وأن أنصار حزب الحركة القومية لم يصوت منهم إلا القليل النادر لصالح التعديلات الدستورية، كما أن هناك من يدَّعي بوجود تيار داخل حزب العدالة والتنمية لم يدعم حملة "نعم".
الصحيح أن عوامل عديدة أدت مجتمعة إلى تراجع نسبة التأييد للتعديلات الدستورية عن مجموع التأييد لحزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية. منها أن قيادة حزب الحركة القومية عارضت لمدة طويلة فكرة الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، ولما غيرت رأيها وبدأت تؤيد الفكرة لم تنجح في إقناع أنصار الحزب بضرورة التصويت لصالح التعديلات الدستورية.
أنصار حزب الحركة القومية يمكن تقسيمهم إلى قسمين: قسم يصوت لأحد الأحزاب المحافظة كحزب العدالة والتنمية إن لم يصوت لحزب الحركة القومية، وآخر يصوت لأحد الأحزاب اليسارية كحزب الشعب الجمهوري إن لم يصوت لحزب الحركة القومية. القسم الأول من أنصار حزب الحركة القومية يعيشون غالبا في محافظات وسط الأناضول، وأما الثاني فمعظمهم من سكان المحافظات الساحلية. ويمكن القول بأن الناخبين المصنفين ضمن هذا القسم الثاني لم يصوتوا بــ"نعم" في الاستفتاء الشعبي.
ومن العوامل التي أدت إلى تراجع نسبة الأصوات المؤيدة للتعديلات الدستورية عن النسبة المتوقعة، وجود خلافات ومشاكل داخل حزب العدالة والتنمية. وهناك مناطق كانت نسبة التأييد فيها لحزب العدالة والتنمية تفوق 50 بالمائة، إلا أن الأصوات الرافضة للتعديلات الدستورية كانت هي الأكثر في الاستفتاء الشعبي. ويرى كثير من أنصار حزب العدالة والتنمية أن رئيس الجمهورية السابق عبد الله غول ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو لم يشاركا في حملة "نعم" ولم يدعوا الناخبين إلى التصويت لصالح التعديلات الدستورية، بل ظلا متفرجين على الجهود التي يبذلها رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء بن علي يلدريم، ودعما حملة "لا" بصمتهم، في الوقت الذي نزل فيه حزب الشعب الجمهوري إلى الساحات بكل قادته وكوادره، وتجول رئيس الحزب السابق دنيز بايكال في أنحاء البلاد لدعوة الناخبين إلى رفض التعديلات الدستورية، ولم يجلس متفرجا على ما يقوم به سلفه كمال كيليتشدار أوغلو. وبالتالي، لن نكون قد ذهبنا بعيدا إنْ قلنا إنَّ هذه النتائج أدت إلى توسيع الشرخ بين غول وداود أوغلو وكثير من أنصار حزب العدالة والتنمية.
هناك عامل آخر لعب دورا في تصويت بعض الناخبين بـ"لا" في الاستفتاء الشعبي، على الرغم من كونهم قد صوتوا لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة. وهو الغضب من موجة الاعتقالات التي طالت عناصر تنظيم الكيان الموازي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة. هؤلاء الناخبون ليسوا من المنتمين إلى جماعة كولن، إلا أن أحدهم غاضب لأن ابنه اعتقل بتهمة الانتماء إلى هذا التنظيم الإرهابي، والثاني يعود سبب غضبه إلى طرد زوج بنته من العمل بذات التهمة. أمثال هؤلاء دفعهم الغضب إلى رفض التعديلات الدستورية، إلا أن تركيا لا يمكن أن تتراجع من مكافحة الكيان الموازي وتطهير أجهزة البلاد ومؤسساتها من خلايا هذا التنظيم الخطير لعيون أقارب المنتمين إليه وخواطرهم. وإن كان هناك ثمن ديمقراطي يجب دفعه كتراجع الأصوات فعلى حزب العدالة والتنمية أو أي حزب وطني آخر أن يدفعه في سبيل القضاء على خطر الكيان الموازي.
* كاتب تركي