جدل المغرب والمشرق

تتقاطع مع عُنوان هذه المقالة عناوين سابقة، صدرت خلال فترات ومنية متباينة، منها تحديدا المقالات الحوارية المنشورة على أعمدة مجلة "اليوم السابع" في باريس، التي جمعت أسماء مميزة من المفكرين والباحثين العرب من المغرب والمشرق، من قبيل  المرحوم "محمد عابد الجابري"، و"حسن حنفي" شفاه الله، على سبيل المثال، أو كتاب شيخ النقد الأدبي و اللغوي "عبد المالك مرتاض"، الموسوم "الجدل الثقافي بين المغرب والمشرق" (بيروت:1982). والحقيقة أن مفهومي "المغرب" و"المشرق"، وإن كانا يرمزان من حيث دلالتُهما إلى المعنى الجغرافي، فقد ظلا يُحيلان على حُمولات أكثر من المكان والجغرافيا.. إنها التاريخ، والثقافة، وما يرتبط ويتفرعُ عنهما.

ففي كتابه الموسوم "نحن والتراث"، دافع "محمد عابد الجابري" عن أطروحة وجود "قطيعة ابستيمولوجية" بين المغرب والمشرق، موضحا حضور "العقلانية الرشدية" لدى المغاربة، وغيابها لدى "المشارقة"، وقد كان لهذه المقالة ردود فعل فكرية وسجالات أدبية كثيرة بين الباحثين والمثقفين العرب. فهل يُفهم من هذا أن المغرب يعيش بعقله، بينما يعيش الشرق بوجدانه، وهل تُسعفنا معطيات الواقع في تأكيد صحة هذا الحكم؟ ثم إذا ربطنا الدفع بهذا النقاش إلى أبعد مداه، هل يمكن القول بوجود فضاءين متميزين ومختلفين، أكثر من متكاملين أو متلازمين؟
 
لا شك أن ثمة في التاريخ من العناصر ما يُساعد على ترجيح صحة تكوّن مثل هذا التمايز المغربي المشرقي، لكن بالمقابل، ليس هناك ما يُثبت حصول تباين أو قطيعة في اللسان (اللغة)، والثقافة، والهوية المشتركة، فالمغرب والمشرق ولدا من رحم واحد، وإن تنوع مسارهما، وتعددت آفاقهما. يُذكر أن العلامة "ابن خلدون"، وإن كتب عن التاريخ العربي الإسلامي على مدار سبعة قرون (ق:7 ـ 13)، وأبان ما ميّز المغاربة عن نظرائهم المشارقة، فقد تناول تاريخ العرب والمسلمين قاطبة كوحدة متكاملة، وليس كأجزاء ضمن الكل الواحد، بل إنه حين توقف عند مآل الأفول والانحطاط وتآكل أرصدة القوة تحديدا مع تفكك وحدة الغرب الإسلامي على عهد الموحدين (ق13)، تحدث عن المغرب والمشرق معا، ولم يميز أحدهما عن الآخر، بل اعتبرهما سائرين على طريق الانحدار الحضاري والخروج التدريجي من التاريخ.

يمكن موضوعيا الحديثُ عن مسار سياسي مغاير للمغرب مقارنة مع المشرق، من زاوية بناء شرعية الدولة والسلطة، منذ أن  فكّ ارتباطه مع دولة الخلافة في المشرق، وسعى إلى بناء تجربة جديدة على أسس مغايرة في بلاد المغرب، وهذا ما حصل فعلا، وما لا تختلف حوله الوثائق التاريخية والحوليات ذات العلاقة. فقد تمكن الآباء المؤسسون، الذين فرَّ أغلبُهم من المشرق، من صياغة رؤية متمايزة عما كان سائدا في المشرق، سواء من حيث بنية الدولة، أو من زاوية نمط الحكم، أو فيما يتعلق بعلاقة  المجتمع بالهوية في أبعادها المختلفة. ومع ذلك، بقي المغرب متماهيا مع المشرق في لغة اللسان، أي لغة القرآن الكريم العربية، كما ترسخ الإسلام في بلاد المغرب حين أقدم فاتحوه من المشرق، قبل أن يمتد إلى ربوع الأندلس، ويصل التخوم الأوروبية. لذلك، يمكن التأكيد على البلاد المغربية، وإن ظلت مرتبطة مع نظيراتها المشرقية في الكثير من المقومات، لاسيما تلك التي لها صلة بالهوية، والشخصية، والعقيدة، فقد تميزت عنها سياسيا من حيث بناء الدولة وتأسيس شرعية السلطة.

لم يمنع تمايز المغرب عن المشرق من حيث تاريخ تطور مسارهما السياسي من بقاء جذوة الاشتراك في التواصل الثقافي متقدة ومشعة، وخلافا لما اعتقدت بعض الكتابات المدافعة عن فرضية حصول قطيعة ثقافية بين المغرب والمشرق، وأن المغرب ابتعد عن ركب المشرق لعدة عقود، وأن أحسن ما وصل إليه أنه كان صدى للمشرق المزدهر ثقافيا، فإن المغرب أنتج بدوره ثقافته، وظهرت في ربوعه نوابغ أغنت المشرق، وفي بعض مناحي المعرفة تجاوزته، ففي ثلاثينيات القرن العشرين كتب المرحوم "عبد الله كنون" كتابا دالا عنوانه "النبوغ المغربي"، كما عرفت أسماء ذات قامات في مجال الفكر والأدب والسياسة. صحيح أن الريادة كانت للشرق،  تحديدا مصر وألى حد ما بلاد الشام، لكن حافظ المغرب هو الآخر على عطائه، ولم يكن قط مساهماً شاحباً في الثقافة العربية الحديثة. ثم هناك متغير آخر، كان له دور مركزي في تكوين نمط من التفكير لدى بلاد المشرق مفاده أن بلاد المغرب فقدت لسانها العربي نتيجة الاستعمار، وبذلك أصبح عصيا عليها إنتاج الفكر والثقافة العربيتين، وأن الشرق وحده هو المؤهل للقيام بهه المهمة. والواقع أن مثل هذا القول خلق بالتدريج، مركزية مشرقية سوّقت فكرة أن بلاد المغرب لا تعدو أن تكون صدى للمشرق، وأنها تستهلك ما يفد عليها من هذه الجناح، دون امتلاك القدرة على الإنتاج، أو الارتقاء إلى طرف في عملية إنتاج الفكر والثقافة .وللحقيقة التاريخية ساهم الاستعمار الفرنسي بشكل كبير في عزل المغرب عن المشرق لإفسال روح الفرقة والتباعد بينهما، ولإحكام سيطرته ، إلى جانب نظرائه من الأوروبيين، من انجليز وإيطاليين، وإسبان، على عموم البلاد العربية، أي على المغرب والمشرق معا.فالمغرب والمشرق معا كل واحد، وإن تعددت التمايزات والاختلافات، والفصل بينهما لا يعدو أن يكون إجرائيا ليس إلا. لذلك، لا يمكن توقع أي تقدم إلى الأمام دون تفكيك هذه الأنماط من التفكير من وعينا الجماعي، والإشتغال على أساس وجود وحدة تاريخية وثقافية بين جناحي البلاد العربية، تحتاج إلى إرادة سياسية وثقافة سياسية ديمقراطية لاستثمار المشترك التاريخي والثقافي لبناء المشروع الجماعي في السياسة والاقتصاد وبناء أرصدة القوة.