عاد الصراع بين القوميين والإسلاميين من جديد في
تونس، وفي ساحات عربية أخرى. وهو الصراع الذي حاول المؤتمر القومي الإسلامي التخفيف من حدته، منذ أن تم تجميع التيارين في وقت مبكر من مختلف الأقطار والتجارب، منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.
وأسعفني الحظ أن كنت مشاركا في تلك المبادرة، عندما أطلقها واحتضنها مركز دراسات الوحدة العربية في مصر، قبل أن تنتقل وتتخذ طابع المؤسسة في بيروت، وتداول على رئاستها شخصيات معروفة، تتمتع بثقة مختلف مكونات الساحتين القومية والإسلامية.
تعددت الحوارت، وصدرت نصوص مشتركة ومواقف موحدة من مسائل وأحداث عديدة، حتى بدا وكأن التيارين قد تجاوزا خلافاتهما التاريخية. لكن ما أن دقت ساعة الثورات والحركات الاحتجاجية في العديد المدن العربية، حتى حدث أمر غريب لم يكن منسجما مع الجهود التي بذلتها أطراف الحوار.
فعندما نزلت الجماهير إلى الشوارع، وارتفع سقف الحريات، وتوفرت الفرصة التاريخية للإسلاميين والقوميين باعتبارهما أبرز مكونات ما يسمى بتيار الهوية، حتى نسي هؤلاء ما هو مشترك، وعادوا إلى الاسطوانة القديمة، يفتحون الجراح السابقة، ويتخندقون وراء متارس تجاوزها الزمن السياسي والفكري والأيديولوجي، مستهينين بالتحديات والمخاطر الإقليمية والدولية التي كانت تحيط بهم، وبدول ما سمي بالربيع العربي.
كانت مصر وتونس محل الاختبار الرئيس لكلا الطرفين. ففي مصر نزل التياران بثقلهما في الساحة السياسية، ووضع كل منهما أمامه هدفا رئيسا يتمثل في الوصول إلى السلطة، ومسك أجهزة الدولة ومفاصلها.
وجاءت لحظة الانتخابات البرلمانية، وبالخصوص الرئاسية، لمعرفة حقيقة إرادتهما للتعاون أو العودة إلى مربع الصراع. وسرعان ما توفرت بعض الملابسات التي أفضت إلى الانتكاس إلى الخلف، حيث عادت هواجس الماضي، وتضاربت الحسابات والمصالح، وتناقضت استراتيجيات من يعتبرون أنفسهم حماة الهوية.
ظن
القوميون أن الفرصة أصبحت سانحة لاستعادة الحكم الذي ضاع من بين أيديهم منذ وفاة الرئيس عبد الناصر وورثه أنور السادات، الذي انعرج بمصر نحو الاتجاه المعاكس.
أما الإخوان المسلون، فقد ذهب بهم الظن إلى الاعتقاد بأنه بعد حوالي قرن من الزمان، دقت ساعتهم ليحكموا مصر، ومن ورائها جزء واسع من دول المنطقة. وهذا الاعتقاد جعلهم لا يبدون المرونة الكافية ليجعلوا من القوميين حلفاء لهم، وشركاء معهم في السلطة، وفي قيادة المرحلة.
المفاجأة الأهم حصلت في الساحة التونسية. وهي ساحة مختلفة تاريخيا وعمليا. لم يكن القوميون حكاما في تونس، ولم يكونوا حلفاء لنظام بورقيبة أو الجنرال بن علي، فقد كانوا مثل الإسلاميين ملاحقين أو على الأقل غير مرغوب فيهم.
ولم يكن هناك مبررات كافية مثلما هو الشأن في مصر لقيام خصومة حادة وشاملة بين الإسلاميين والقوميين، فكلاهما عدل من أطروحاته الأيديولوجية، ما جعل المراقبين والمهتمين يتوقعون حصول أكثر من تقاطع بينهما.
لكن رغم ذلك، اتجهت العلاقة نحو تعميق الشكوك، حتى حدث ما لم يكن متوقعا. إذ بدل أن يحصل تقارب إسلامي قومي، تم تحالف قومي يساري، أي أن القوميين التونسيين اختاروا أن يكونوا طرفا في بناء الجبهة الشعبية التي دعا إليها الوجه اليساري المعروف شكري بلعيد، التي كان من بين أهدافها التصدي لصعود حركة
النهضة ومقاومة مشروعها السياسي والديني.
وقد يكون من بين الدوافع الي أدت إلى هذه النتيجة، تعالي الإسلاميين التونسيين عن التنظيمات القومية المحلية، إلى جانب عوامل أخرى عدة، ليس هذا مجال سردها، والتوقف عندها.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تطورت الأمور في اتجاه أخطر وأكثر تعقيدا. فبعد اغتيال شكري بلعيد بحوالي ستة أشهر، تم اغتيال الحاج محمد البراهمي، أبرز وجوه التيار الناصري في تونس.
ولأن اغتياله شكل صدمة كبرى للقوميين، ولأن تصفيته الجسدية تمت هي أيضا في ظل حكم الترويكا، وبقيادة حركة النهضة، رغم التحذيرات التي وردت من المخابرات الأمريكية بأن البراهمي عرضة لاغتيال قريب، ومع ذلك لم تتخذ الإجراءات الأمنية الضرورية لحمايته.
وبناء على تلك الاعتبارات وغيرها، وجه عموم القوميين إصبع الاتهام نحو قيادة حركة النهضة، وحملوها مسؤولية الاغتيالات السياسية. وكانت تلك الضربة القاضية، على أي أمل في تحقيق تقارب جدي بين التيارين.
إن ما يحصل اليوم من مناوشات حول مسألة وجود كتيبة عسكرية، تحمل اسم الشهيد محمد البراهمي، وتتركب من مسلحين يدافعون داخل سوريا عن بشار الأسد ونظامه، وهو ما جعل أحد قادة حركة النهضة يطالب بمحاكمتهم، مثلما هو الشأن لكل التونسيين الذي انخرطوا في تنظيم "داعش" أو "النصرة".
هذا الأمر الذي لم يثبت بشكل قاطع، ولم يتوفر أي دليل على أن يكون التيار الشعبي هو الذي دعم هؤلاء إن وجدوا، قد فتح الباب على مصراعيه لجولة جديدة من الاتهامات المتبادلة بين الإسلاميين والقوميين في تونس.