كتاب عربي 21

القلم والدواة!

1300x600
شرطي من أصل عربي: أنت لا تعرف شيئا؟ من اعتدوا على عبديل سيعاقبون.

فينز: أنت تحلم.

الشرطي: أنت تخلط الأشياء. أغلبية رجال الشرطة موجودون هنا في الشارع لحمايتكم لا الاعتداء عليكم.

داخل مركز الشرطة يتبادل فينز وهوبير نظرات ناقمة مع رجال شرطة غاضبين من الهجوم الذي تعرض له المركز. وعلى الحائط نقرأ كلمة "الانتقام".

يستمر الحوار خارج المركز كما في الجزء الأول. فمركز الشرطة مسرح دائم لطرق أخرى معروفة للتعامل مع المعتقلين من أبناء الضواحي تتصدر فيها اللكمات وتنحصر الكلمات.

الشرطي: لم أعد أتمكن من فتح قنوات حوار مع الشباب وأنا قديم هنا وهم يعرفونني. كيف سيكون الوضع مع شرطي مستجد؟ لن يستطيع الصمود شهرا واحدا.

سعيد: وشاب عربي داخل مركز الشرطة لن يصمد لساعة من الزمن.

في المشهد الأخير من فيلم (الكراهية – 1995) للمخرج ماثيو كاسوفيتش، يعود الشبان الثلاثة، فيتز وسعيد وهوبير، إلى سكناهم بعد ليلة قضوها بمركز العاصمة باريس. وبمجرد افتراقهم تصل دورية أمنية إلى المكان، ودون مقدمات تبدأ في استنطاق سعيد وفيتز الذي يسقط صريعا جراء طلق ناري، غير متعمد، من مسدس شرطي.

قبل أيام أصدرت المفتشية العامة للشرطة الفرنسية تقريرا اعتبرت فيه أن ثيو، وهو شاب فرنسي من أصل افريقي ناله من قمع الشرطة نصيب، لم يتعرض للاغتصاب لأن "نية اقترافه لم تكن موجودة، كما أنه يستحيل البرهنة على ذلك وهو ما يجعل ما حدث غير متعمد بل عنفا غير مقصود". محامي الضحية لم يتأخر في الرد معتبرا أن الأمر "يتعلق باغتصاب لأن الشرطة ليسوا هواة لأن استخدام العصا التي ولجت 10 سنتيمترات في جسم الضحية، بهذه الطريقة، اغتصاب".

ولولا كاميرا مراقبة لما عرفنا بما وقع للشاب ثيو، وهو فرنسي من أصول افريقية، حين تولت فرقة من أربعة رجال شرطة مهمة ركله ورفسه وضربه في كامل أنحاء جسده وهي التي ألفت التعامل مع الأشخاص اعتمادا على لون البشرة ليس إلا. هي حادثة اهتزت لها فرنسا وأدت إلى نشوب مواجهات امتدت من مدينة "أولناي سوبوا"، مسرح الجريمة، إلى ضواحي عدد من المدن الفرنسية الأخرى رغم مسارعة وزارة الداخلية لتوقيف الأمنيين الأربعة وفتح تحقيق في الموضوع، بل تجشم الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عناء التنقل للمستشفى حيث يرقد ثيو للتعبير عن مساندته سعيا لنزع فتيل "فتنة" كامنة تحت رماد السياسات المتعاقبة للحكومات الفرنسية اتجاه الضواحي خصوصا في فترة متسمة بالاستعدادات للانتخابات الرئاسية شهر مايو المقبل.

في فرنسا دائما، اضطر رومان بولنسكي، وهو مخرج سينمائي عالمي، للاعتذار عن رئاسة لجنة تحكيم جوائز السيزار لهذه السنة بعد أن أثار اختياره كثيرا من الاحتجاجات من جمعيات نسائية أطلقت عرائض طالبت بتنحيه باعتبار أن اختياره "مهين لضحايا الاغتصاب والاعتداءات الجنسية" وهو ما ساندته وزيرة حقوق النساء بالحكومة الفرنسية. رومان بولنسكي ملاحق من العدالة الأمريكية بتهمة اغتصاب مراهقة في العام 1977، ولولا هروبه إلى فرنسا لوجد نفسه وراء القضبان وهو ما منعه من تسلم أوسكار أفضل مخرج عن فيلمه (عازف البيانو) سنة 2003.

الأكيد أن المجتمعات الغربية، وإن تواطأت أنظمتها القضائية، مستعدة للتساهل في قضايا إجرامية تصل حد القتل. لكنها لا تجد ما يبرر الاغتصاب أو التحرش الجنسي. ولعل في الضجة التي أثارها، قبل أيام، الكشف عن حقيقة مشهد الاغتصاب في فيلم (التانغو الأخير بباريس - 1973) للمخرج برناردو برتولوتشي حيث كُشِف أن المشهد كان حقيقيا بتواطئ المخرج والممثل مار الأسطورة لون براندو دون علم البطلة ماريا شنايدر لدليل آخر على ما يقابل عملية "الاغتصاب" من رفض تجلى أيضا فيما واجهه المغني المغربي سعد لمجرد، الذي وجد نفسه معتقلا بإحدى السجون الفرنسية لمجرد اتهام فتاة له بالاعتداء الجنسي. في المغرب، خرج عدد من محبي الفنان الشاب وزملاء له للتظاهر أمام السفارة الفرنسية بالرباط احتجاجا على توقيفه، والتبرير أن الأمر مجرد مؤامرة حينا أو أنه علاقة رضائية حينا آخر.

بعد انتهاء ممثل النيابة الذي دعا لإيقاع أقصى العقوبة على مغتصب إحدى الفتيات، تطلب المحكمة من الدفاع البدء في المرافعة.

القاضي: الدفاع.. عندك حاجة تقولها يا أستاذ؟

يقف المحامي مصطفى خلف. يأخذ معه دواة ويبحث في سترته عن شيء أمام ذهول الجميع.
القاضي: ايه يا أستاذ؟ انت مش جاهز؟

مصطفى خلف: جاهز سعادتك بس بادور على قلم حبر. ملقيش مع سعادتك قلم حبر؟

القاضي: لأ.

مصطفى خلف: من ساعة ما اخترعوا القلم الجاف والدنيا باظت وقل خيرها. ولا ريشة سعادتك؟

أحد الحضور: قلم الحبر اهوه.

مصطفى خلف: يا سلام.. الراجل ده تلاقيه محافظ على التقاليد مظبوط.

يتوجه مصطفى خلف إلى حيث يجلس القاضي ويمد له القلم.

مصطفى خلف: لو سمحت سعادتك تمسك القلم ده. حط سعادتك القلم في الدواية.

القاضي: ازاي بقا وانت قافلها؟

مصطفى خلف: يعني مستحيل تحط القلم في الدواية وأنا قافلها. لازم افتحها.. طيب أديني فتحتها.. جرب سيادتك تحط القلم كده.

يحاول القاضي إدخال القلم في الدواة لكن المحامي مصطفى خلف يحركها كل مرة بعيدا عن القلم.
القاضي (غاضبا): ازاي بقا وانت بتحركها؟

مصطفى خلف: يعني لازم افتح الدواية الأول وبعدين أثبتها علشان سعادتك تحط القلم فيها. طيب حط القلم كده سعادتك... اهه دخل.. دلوقتي بس سعادتك نجحت تحط القلم بتاعك في الدواية بتاعتي.. لا مؤاخذة يا سعادة الريس.. شكرا.

يواصل مصطفى خلف: قضيتنا هي هذه يا سعادة الريس.. علميا وتشريحيا ليس هناك شيء اسمه اغتصاب يؤدي إلى هتك عرض كما تفضلت النيابة وكيفت القضية. لابد أن يحدث قبول واستجابة، وطالما حدث هذا فقد انتفى عنصر الإرغام والقهر والغصب والدليل على ذلك القضية المشهورة لفتاة المعادي التي اتهم فيها عدة أشخاص وحوكموا فيها. لقد ثبت من تقرير الطبيب الشرعي بعد عملية الاغتصاب أن الفتاة ما زالت بكرا رغم كل ما حدث وهذا معناه أنها رفضت.. رفضت.. أما في حالتنا هذه فتقرير الطبيب الشرعي أثبت العكس وهذا يعني أن فتاتنا البريئة لم ترفض وهو ما يهدم كل ما بنته النيابة رأسا على عقب...

كان هذا مشهدا من فيلم (ضد الحكومة – 1991) للمخرج عاطف الطيب، ومرافعة المحامي مصطفى خلف لا تبتعد كثيرا عن التفسير الذي أعطاه محامي مدير القناة الثانية المغربية الذي شغلت قضية اتهامه من طرف متدربة سابقة بالقناة بالاغتصاب الشارع المغربي طوال الأسبوع الماضي. ابتدأت الحكاية بتدوينة للمتدربة السابقة على صفحتها، تتهم فيها بشكل مباشر مدير أكبر القنوات التلفزيونية المغربية بالاعتداء الجنسي مقابل تشغيلها في القناة، بعد أن تواصلت معه لتقديم شكاية ضد مدير الموارد البشرية السابق بالقناة ذاتها، إثر تفجر قضية اتهامه بممارسة الفعل ذاته (التحرش) بمتدربات تسع اشتكينه قبل سنوات لأحد برلمانيي العدالة والتنمية الذي فجر الموضوع وانتهى الأمر بإقالته بعد تحقيق داخلي بأمر المدير- المتهم الجديد. قدم المدير شكاية للأمن يتهم فيها المتدربة بالقذف والتشهير وهو المنحى الذي اتخذه مدير البرامج السابق بالقناة الذي جاء اسمه في تدوينات تالية وهدأت العاصفة كأن شيئا لم يكن. فلا مراسلات الواتساب ولا المكالمات الهاتفية التي جمعت المتدربة بالمدير، رغم أنها لا تشي بوجود اغتصاب بل شبهة استغلال جنسي، شفعت للقضية حتى يتحرك الساسة والقائمون على تدبير الشأن العام المغربي في اتجاه إيلاء القضية الأهمية التي تستحق. المتهم ليس شخصا عاديا والقناة ليست مؤسسة عادية لكن الصمت كان شعار الجميع. وجه المفارقة أن الجمعيات النسائية تجاهلت الأمر بل إن الوزيرة المسؤولة على القطاع الإعلامي، مؤقتا، لم يسمع لها رأي ولم ير لها إجراء، وهي وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة والطفولة التي قدمت للمجلس الحكومي، قبل سنوات، مشروع قانون لتجريم التحرش، خصوصا على من له سلطة على الضحية، قبل أن يقبره زملاؤها في المهد ويشكل له رئيس الوزراء لجنة للمراجعة بلا جدوى.

داخل مقر جمعية تنشط في الدفاع عن حقوق النساء، تجلس محامية متطوعة بالجمعية بمواجهة سميرة وزوجها محسن.

المحامية: التحرش الجنسي ليس فقط مسألة جنسية، هو أيضا استغلال النفوذ والشطط في استعمال السلطة. منذ متى وهو يتحرش بك؟

سميرة: منذ أول يوم تعيين له بالشركة.

المحامية: ما نوع التحرش الذي تتعرضين له بالضبط؟

سميرة: يقول إنه راغب في قضاء ليلة واحدة معي وبعدها يتركني وشأني.

المحامية: وكيف يكون رد فعلك؟

سميرة: أفهمه أن هذا لن يتحقق أبدا.

المحامية: للأسف، هناك فراغ تشريعي كبير في هذا المجال. القانون الجنائي وقانون الشغل وقانون الوظيفة العمومية لا تشمل نصا يعرف التحرش الجنسي بوضوح.

سميرة: ما العمل إذن؟

المحامية: هل من طريقة يمكنك بها الإثبات المادي لفعل التحرش؟

محسن: مثلا؟

المحامية: شهود.

سميرة: ومن سيشهد معي في هذه القضية؟

المحامية: أنت على حق. التحرش الجنسي غالبا ما يكون وراء الأبواب المغلقة.

والأبواب المغلقة عنوان فيلم مغربي أنتج سنة 2014 للمخرج محمد عهد بنسودة وتعرض لأشكال التحرش الجنسي الذي تعانيه النساء المغربيات في مواقع العمل وخارجها خصوصا وأن الإحصائيات الرسمية تشير إلى أن 62 بالمائة منهم تعرضن لذلك. وفي ظل غياب وسائل الإثبات وانتشار ظاهرة استغلال المنصب والسلطة من أدنى مستوياتها حتى الأعلى، يصبح الإبلاغ عن الفعل استثناء والرضوخ للواقع قاعدة تجعل الممارسة منتشرة وبشكل مخيف.

في مكتب المدير العام المتواطئ مع السيد مراد، مدير فرع الشركة حيث تشتغل سميرة، باعتباره صهر وزير.

المدير العام: إنها تطالب برد كتابي بخصوص شكايتها وهذا معناه أنها تبحث عن دليل مادي لترفع قضية ضدنا.

مراد: هكذا إذن. تريد تصعيد الموضوع.

المدير العام: السيد قادوري، رجاء أن تكون حريصا معها فقد صارت خطرة ولا أريد مشاكل داخل الشركة.

مراد: بالمناسبة، نسيت إخبارك أن السيد الوزير زارني أمس في بيتي.

المدير العام: صحيح؟

مراد: بالتأكيد.

مشاهد فيلم (خلف الأبواب المغلقة) الذي شارك القطب العمومي، الذي تعد القناة الثانية واحدة من قنواته، في عملية إنتاجه، لا تختلف كثيرا عن حكاية المتدربة سلوى كما حكتها. وفي قضية ثيو ولمجرد وبولنسكي وبراندو وسميرة وماريا وسلوى وغيرهم كثير، تختلط الحقائق بالأكاذيب لكن فضيلة الإحساس بالذنب والاعتراف، ولو بعد حين، تميط اللثام عن الحقيقة الكامنة وراء الأبواب المغلقة. ربما يتحقق الأمر هناك في الغرب، أما عندنا فالفحولة والتواطؤات تمنع المرء من الاعتراف بما اقترفت يداه وبعض من أعضائه الأخرى في حق نفسه وعائلته ومؤسسته وسمعة الوطن.