تنشر "
عربي21" هنا الجزء الثالث، والأخير، من التقرير المطول لوكالة بلومبرغ الإخبارية، حول نشاط شركات تكنولوجية
إسرائيلية في
السعودية. وتحدث التقرير، الذي أعده كل من جوناثان فيرزيغر وبيتر والدمان، بشكل خاص عن المهمة التي تقوم بها شركة مختصة بمسح شبكات التواصل الاجتماعي للوصول إلى "الإرهابيين" المحتملين، إضافة إلى
العلاقات الاقتصادية المتزايدة.
اقرأ أيضا: كيف تمارس شركات تكنولوجية إسرائيلية نشاطها بالسعودية؟ (2)
وفي ما يأتي نص الجزء الثالث من التقرير الذي ترجمته "
عربي21":
يقول رئيس الموساد السابق شافيت: "يتوجب أن يكون كل شيء تحت الرادار".
بهذه الطريقة تمكن ماتي كوتشافي من شق طريق لإسرائيل إلى داخل منطقة
الخليج، وأبرم صفقة تجهيزات أمنية لدولة الإمارات العربية بقيمة ستة مليارات دولار. وكان رجل الأعمال الإسرائيلي كوتشافي، الذي يقضي جزءا من حياته في الولايات المتحدة الأمريكية، قد أسس عدة شركات للتقنيات الرفيعة في مجال الأمن بعد الهجمات الإرهابية التي وقعت في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. إحدى هذه الشركات اسمها "فور دي" للحلول الأمنية في جنوب بلينفيلد، نيوجيرسي، وهي التي أنشأت أنظمة الرقابة التي ترصد محيط مطارات نيويورك.
بادر كوتشافي بتسويق خدمات شركاته إلى قادة الإمارات العربية المتحدة في أبو ظبي، ولم يخف عليهم حقيقة أن مصدر معظم
التكنولوجيا التي تستخدمها شركاته وكثير من الموظفين العاملين فيها؛ هي إسرائيل. فما كان منهم إلا أن أكدوا له أن الأمر لا يهم، طالما أن المقاولين الذين يقومون على تنفيذ المشاريع لا يقيمون في إسرائيل.
وفي الواقع، تعتبر قدرات وخبرات إسرائيل في مجال الأمن ميزة هامة بالنسبة لبلد يتعرض لتهديدات مشابهة لما تتعرض له، ولكنه لا يملك تقنيات الدفاع اللازمة، حسبما يقول موظفون سابقون كانوا يعملون مع كوتشافي.
يقول ضابط مخابرات إسرائيلي سابق واصفا البنية التحتية الإماراتية لإنتاج ثلاثة ملايين برميل نفط في اليوم: "عندما بدأنا لم تكن توجد أي أسوار أو سياجات. كان بإمكان الجمل لو رغب أن يمشي إلى مرافق الإنتاج ويشرب من النفط". ورفض كوتشافي التعليق من خلال الناطق باسمه موشيه ديبي.
باع كوتشافي للإمارات ما كان في ذلك الوقت يعتبر النظام الأمني الأشمل والأكثر تكاملاً في العالم. فما بين عام 2007 وعام 2015 قامت شركة مملوكة لكوتشافي اسمها "إيه جي تي إنترناشنال"، مقرها زيوريخ، بتركيب آلاف الكاميرات والمجسات وأجهزة قراءة لوحات أرقام السيارات على امتداد حدود الإمارات الدولية البالغة 620 ميلاً، في مختلف أنحاء أبو ظبي. وتناط مهمة تحليل البيانات الواردة من كل هذه التجهيزات بمنصة الذكاء الصناعي التابعة لشركة "إيه جي تي"، والتي تسمى مجازا "ويزدام" (أي الحكمة). من الناحية الشكلية يدير كوتشافي هذه العملية من داخل الولايات المتحدة الأمريكية ومن سويسرا. إلا أن العقل المدبر في واقع الأمر يقيم في إسرائيل، في شركة أخرى مملوكة لكوتشافي اسمها "لوجيك إندستريز".
في أوج المشروع، كانت طائرة من طراز "بوينغ 737"، مطلية باللون الأبيض، تنطلق مرتين في الأسبوع من مطار بن غوريون الدولي في تل أبيب ثم تتوقف لبرهة قصيرة في قبرص أو في الأردن، كنوع من الغطاء السياسي، ثم تهبط بعد ثلاث ساعات في أبو ظبي، وعلى متنها عشرات المهندسين الإسرائيليين، كثيرون منهم من داخل أجهزة الاستخبارات. وفي أبو ظبي يعيشون معا ويأكلون معا ولا يرتادون المطاعم، ومعهم أجهزة تحديد مواقع وأجهزة إنذار لا تغادرهم بتاتا، ويخفون جنسياتهم وأسمائهم العبرية، كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ويطلقون على إسرائيل اسم "البلد سي"، وأما كوتشافي فيطلقون عليه "إم كيه".
معظم العرب الذي عملوا مع شركة "إيه جي تي" كانوا يظنون أنهم يتعاملون مع شركة سويسرية، الأمر الذي سبب في بعض الأوقات إحراجات، ولكن ذلك لم يحل دون إقامة صداقات حميمة. في بعض الأوقات كانت تبدو الأمور سخيفة ومضحكة، وخاصة عندما كان مسؤولو المخابرات في الإمارات العربية المتحدة يطلقون على الإسرائيليين ألقابا مأخوذة من المسلسل التلفزيوني "لوست" (تائه أو ضائع)، مثل "بون" و"سوير".
تجلت قيمة التكنولوجيا الإسرائيلية في كانون الأول/ ديسمبر 2014، عندما طعنت امرأة معلمة مدرسة أمريكية حتى الموت داخل دورة مياه في أحد المجمعات التسويقية في أبو ظبي، ثم قادت سيارتها باتجاه منزل طبيب أمريكي من أصول مصرية وزرعت فيه قنبلة، تم في وقت لاحق من ذلك اليوم نزع فتيلها وإبطال مفعولها. وتمكنت الشبكة التي تديرها شركة "إيه جي تي"، من خلال معالجة مقاطع فيديو وصور التقطت في مسرح الجريمة من التعرف على المشتبه بها خلال يوم واحد. أدينت المرأة وحكم عليها بالإعدام، ونفذ فيها الحكم بعد سبعة أشهر.
لم يرد المتحدث باسم الحكومة في أبو ظبي على أسئلة وجهت إليه عبر رسائل الإيميل، حول ما تقوم به شركة "إيه جي تي" من أعمال داخل الإمارات العربية المتحدة. ورفض متحدث باسم سفارة الإمارات في واشنطن التعليق على الموضوع.
في عام 2014 كان المشروع الذي تنفذه شركة "إيه جي تي" داخل الإمارات العربية المتحدة يوشك على الانتهاء، وتصادف ذلك مع دخول الشركة بالتعاون مع مؤسسة "فور دي" في مشروع جديد بالاشتراك مع مؤسسة موبايلي، وهي شركة هواتف خلوية سعودية، لتركيب نظام للتحكم في الحشود وتنظيمها في مكان بالغ القدسية، لدرجة أن غير المسلمين لا يسمح لهم بدخوله، ألا وهو مكة.
وكانت وزارة الحج السعودية قد طرحت عطاء لتنفيذ مشروع لتنظيم الدخول إلى المنطقة في موسم الحج السنوي الذي يشهد تدفق ما يزيد على ثلاثة ملايين حاج. رغم أن السعوديين يقصرون الدخول في الموسم على من يحصل على إذن بذلك، في محاولة لترشيد وتقنين أعداد الحجاج، إلا أنهم لا يصدّون من نجح من الحجيج في الوصول إلى المدينة المقدسة. ولذلك ثمة حاجة إلى ضبط الموضوع، والحد من تسرب الحجاج غير المرخص لهم بالدخول، قبل أن تقترب الحافلات التي تقلهم من مختلف بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية. ولكن كيف يمكن ضبط ذلك؟
صمم مهندسو شركة "فور دي" في نيوجيرسي؛ نظاما يتطلب من الحاج المرخص له بالدخول أن يضع على رسغه سوارا يسجل وجوده داخل الحافلة المخصصة لنقل الحجيج، وهذه الحافلات ستستخدم نظام شركة موبايلي الخلوي لإشعار جهاز حاسوب مركزي بعدد الركاب على متنها، سواء ممن يلبسون الأساور أم ممن لا يلبسونها. وفيما لو تواجد أي ركاب على متن الحافلة ممن لم يصرح لهم بالتواجد فيها، فسيبدأ ضوء أحمر بالوميض خارج الحافلة، وبفضله ستتعرف الشرطة على الحافلة المخالفة، وستتمكن من توقيفها وإخراج الركاب غير المصرح لهم قبل وصول الحافلة إلى مكة بمسافة كافية، أو يمكن أن يحال دون عبور الحافلة المخالفة حينما تصل إلى نقطة من نقاط التفتيش الإلكترونية، وستضطر إلى العودة إذا لم يكن مصرحا لها بالمرور. في الوقت نفسه، بإمكان المسؤولين السعوديين استخدام النظام الذي صممته شركة "فور دي"؛ كما تستخدم نظم التحكم بعبور الطائرات، بحيث ينظم عبور الحافلات وترتب مواعيد وصولها إلى وجهتها للتقليل من الزحام.
واستعرضت الشركات التي يملكها كوتشافي، بالاشتراك مع شركة موبايلي السعودية، نموذجا للنظام الذي صممته أمام مسؤولين سعوديين من وزارة الحج في جدة. وشارك بندر الحجار، الذي كان يشغل منصب وزير الحج في ذلك الوقت، مع عدد من مساعديه في الاختبارات التي أجريت على النظام، حيث إن كل واحد منهم لبس سوارا من أساور "فور دي" وركبوا في حافلة داخل موقف الحافلات. وما لبث جهاز الحاسوب المركزي أن كشف عن أن عدد الأساور الموجودة على متن الحافلة تجاوز عدد الركاب فيها، في ما بدا خللاً محرجا. إلا أن الحجار ابتسم، ومد يده في جيبه ليخرج منها سوارا آخر غير الذي كان على رسغه. علق على ذلك موظف سابق كان يعمل مع كوتشافي قائلاً: "لقد كان يختبرنا".
حاز النظام الذي تقدمت بها شركة "إيه جي تي" وشركة "فور دي" على أعلى نقاط من بين ثلاثة نماذج قُدمت لوزارة الحج، إلا أن العطاء لم يكن من نصيبهم. بعد عدة أشهر نشر بعض المهندسين في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بحثا في دورية أكاديمية متخصصة قدموا فيه فكرة تكاد تكون متطابقة تماما مع ما كان قد عُرض على وزارة الحج. وفي العام الماضي طلب السعوديون من الحجاج للمرة الأولى وضع أساور على أياديهم، وأعلنت الشرطة أنها أعادت ما يقرب من 200 ألف حاج لم يكن لديهم تصاريح دخول إلى المنطقة. لم يرد الناطق باسم وزارة الحج على الأسئلة التي وجهت إليه عبر رسالة إيميل.
وردا على أسئلة وجهت إليه عبر رسالة بالإيميل، قال محمد البلوي، الناطق باسم شركة موبايلي السعودية: "لقد تقدمت موبايلي بعرض لتنفيذ العطاء المذكور بالتعاون مع شركة أمريكية، إلا أننا لم نكسب المناقصة". وأضاف أن "الزعم بأن ذلك كان تعاونا بين موبايلي من جهة وشركة إسرائيلية من جهة أخرى؛ كلام مضلل وعار عن الصحة.. سياستنا لا تسمح لنا بمثل هذا النوع من الشراكات".
في تلك الأثناء أعرب مهندس سابق كان قد عمل مع شركات كوتشافي عن قناعته وقناعة زملائه بأن فكرتهم تعرضت للسرقة، ومع ذلك فهو لا يخفي دهشته لأنهم تمكنوا على الأقل من الوصول وإجراء الاختبار. وفي ذلك يقول: "ما يدهشني فعلاً هو ذلك الكم الهائل من المال ومن التكنولوجيا التي تنساب بين ألد الأعداء في الساحة السياسية".
ومع ذلك، فإن أقدس البقاع عند المسلمين، تظل -على الأقل حتى هذه اللحظة- بعيدة المنال.
اقرأ أيضا: كيف تمارس شركات تكنولوجية إسرائيلية نشاطها بالسعودية؟ (1)