سمحت "
حماس" لأعضاء مؤتمر
فتح السابع من غزة بالسفر إلى رام الله للمشاركة في المؤتمر، وشاركت حماس في فعاليات افتتاح المؤتمر، وألقى النائب عن الحركة في التشريعي أحمد الحاج علي بالنيابة كلمة رئيس الحركة خالد مشعل في حفل افتتاح المؤتمر، وسمحت
السلطة بعد ذلك لحماس بإقامة احتفال محدود ومغلق في ذكرى انطلاقتها في رام الله.
وشاركت حماس في اجتماعات اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني في بيروت، وأخيرا يفترض أن تلتقي الفصائل الفلسطينية في الثامن عشر من الشهر الجاري في موسكو، في واحد من حوارات
المصالحة.
كل ما سبق لا يعطي أي إشارة على تجاوز حقيقي للمسائل المستعصية بين الفصيلين الكبيرين اللذين يقتسمان المشهد الفلسطيني، وأي انطباع من هذا النوع لا شك في زيفه، إذ لا تعدو علاقة الفصيلين الحالية بما توحيه من تجاوز لبعض المرارات أن تكون نتيجة طبيعية لتقادم الزمن على حدث الانقسام، وجريان مياه كثيرة أسفل جسور فلسطين والعالم، ولكن ما بينهما كان دائما أكثر من الخصومة السياسية وأكبر من الانقسام.
صحيح لم تكن علاقة الحركة الإسلامية بفتح قائمة على التوازي الدائم، فباستثناء تنظيم الإخوان في غزة، الذي خرج منه مؤسسو فتح الأوائل، فانطبعت العلاقة منذ البداية المبكرة بالحساسية المفرطة، فإن بقية تنظيمات الإخوان في العالم العربي نظرت بإيجابية لفتح، وظلت تعتقد لفترة من الزمن أن هذه الجماعة المقاتلة انبثاق طبيعي عن الإخوان.
بقي الإخوان العرب بعد ذلك يرون فتح أقرب الفصائل الفلسطينية إليهم، بالنظر إلى النزعة الماركسية الطفولية التي استحوذت على اليسار الفلسطيني من عمر الثورة المبكر، فكانت فتح هي اختيار جماعات الإخوان العربية لتعمل في ظل حمايتها في تجربة معسكرات الشيوخ، التي انتهت مع أحداث أيلول، التي على إثرها هيمن على فتح بدورها تيار يساري طوال الحقبة اللبنانية من عمر الثورة الفلسطينية.
جمعت بين فتح وحماس بعد تأسيسها، ميادين النضال في الانتفاضة الأولى، وفي السجون، وفي الانتفاضة الثانية، ولم تخل حالات النضال العارمة تلك من علاقات التعاون والعمل المشترك، ولكن هذه الصورة أيضا ناقصة، وهي مضللة إن أخذت لوحدها.
إذا كان قد عرف عن فتح قدرتها على استيعاب التنوع الفلسطيني خارج الأرض المحتلة، لا سيما في مرحلة الثورة، فإنها لم تكن كذلك داخل الأرض المحتلة، فقد التقت فصائل منظمة التحرير، وفي طليعتها فتح، داخل فلسطين على كبح صعود الحركة الإسلامية في أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، على الرغم مما بشر به ذلك الصعود من إمكانية تحول الحركة الإسلامية إلى النضال الوطني وجمعها
المقاومة إلى نشاطها الدعوي والفكري.
بدأت تحولات الحركة الإسلامية كبيرة، فحققت الكتل الإسلامية الطلابية الوليدة نتائج كبيرة في جامعة بيرزيت، وفازت في انتخابات جامعة النجاح التي تزامنت تقريبا مع ولادة الكتلة، ولكن ذلك دفع فصائل منظمة التحرير لتكثيف حصارها الذي فرضته على الكتل الإسلامية، الذي أخذ شكل العدوان الجسدي والمادي على منتسبيها في جامعات الضفة أو في الهجوم على الجامعة الإسلامية في غزة.
ومع بدايات ممارسة أفراد الإسلاميين للمقاومة، وتحول بعض منتسبي فصائل منظمة التحرير إلى الفكر الإسلامي، أخذت السجون تشهد قادمين جددا من خارج فصائل منظمة التحرير، وقد شكل هؤلاء القادمون الجدد ما عرف بالجماعة الإسلامية داخل السجون، التي شكلت رافدا من روافد الحركة الإسلامية في فلسطين.
بيد أن هذا التحول الواضح نحو المقاومة، عزّز وعلى خلاف ما ينبغي، الحصار الذي تفرضه فصائل منظمة التحرير، وفي طليعتها فتح، على هذا الكيان الجديد، وأورثت تلك المرحلة إسلامييها مرارات ظلت مستمرة حتى السنوات الأولى من انتفاضة الحجارة.
فقد تعرض الإسلاميون لسنوات طويلة إلى إيذاء جسدي مباشر داخل السجون من فتح وبقية فصائل المنظمة، ومقاطعة مستمرة، فضلا عن حرمانهم من كثير من حقوقهم باستغلال انحصار التمثيل الاعتقالي في فتح.
هيمنة اليسار على العقل الفتحاوي في تلك المرحلة، والصعود القوي والكبير للحركة الإسلامية، الذي تعاظم مع تأسيس حماس، ومجيء هذه الأخيرة من خارج منظمة التحرير، وبالتالي من خارج قدرة فتح على الاحتواء، بالإضافة للدعاية التاريخية التي استهدفت الإخوان المسلمين وشكلت جزءا من الذهنية الفتحاوية، وتصور فتح لنفسها أنها "أم الجماهير"؛ كانت كلها عوامل تدفع فتح إلى عزل وإقصاء حماس، بل ومحاولة اجتثاثها.
كانت العلاقة بين الفصيلين الكبيرين في الانتفاضة الأولى امتدادا لذلك التاريخ من الشك والتربص والحصار ومحاولات العزل والإقصاء، لا سيما أن حماس كانت المقابل الكامل لفصائل منظمة التحرير، فبينما اجتمعت فصائل منظمة التحرير فيما عرف بالقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الأولى، كانت "حماس" تستقل بفعالياتها بما في ذلك الإضرابات وأيام المواجهات.
وفعليّا، سعت فتح إلى إفشال فعاليات حماس وكسر إضراباتها في مسلك غريب بالنسبة لتلك المرحلة التي شكلت فيها هذه الفعاليات أهم أدوات الانتفاضة الأولى الاحتجاجية في مواجهة الاحتلال، الذي كان يعمل بدوره في السنة الأولى من تلك الانتفاضة على كسر إضرابات الجميع وإفشال فعاليات الجميع.
بدت حماس منافسا لفتح، وبديلا محتملا لمنظمة التحرير، وعلى الأرجح، فإن "حماس" قد نظرت لنفسها كذلك، ولكنها كانت تسعى لتحقيق تصورها عن دورها بتكريس نفسها ومحاولة إثبات ذاتها بتعظيم نشاطها وتأكيد استقلاليتها، بينما كانت فتح تسعى لإفشال جهود حماس بالحصار والتشويه.
وقد أكد ذلك لدى كوادر "حماس" الأولى، سواء في مرحلة مؤسسات الإخوان في غزة والكتل الإسلامية في الضفة، أو في السجون، أو في الانتفاضة الأولى، أن القوة والمعاملة بالمثل، وحدها الكفيلة بحماية الحركة الوليدة الصاعدة، وقد كان ذلك.
لما دخلت السلطة الفلسطينية، والتي تشكل جهازها البيروقراطي بشقيه المدني والأمني من كوادر فتح، سواء العائدين من الخارج، أو من كادر الانتفاضة الأولى؛ افتتحت عهدها بقمع مُركّز شَلّ حركة حماس فعلا ولاسيما في قطاع غزة.
لم تكن السلطة التي قطعت مسار الانتفاضة الأولى، تسعى لتثبيت حقيقة وجودها ومنع حماس من إفشال مشروع السلطة بعملياتها التفجيرية فحسب، ولكنها كانت تبني حلقة جديدة في سلسلة الصراع مع حماس، وهي سلسلة لم تكسرها الانتفاضة الثانية، إذ سرعان ما بدأت فتح بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006 في إفشال تجربة حماس، دون أن يمنعها أن هذه المحاولات تضع الحَبّ في طاحونة الاحتلال والقوى الدولية والإقليمية التي أخذت تحاصر التجربة الوليدة.
كان الواجب الوطني حينها، ورغم الخسارة المرّة، يقضي بأن ترفض فتح التماهي مع تلك الجهود التي تبتز الشعب الفلسطيني في لقمة عيشه وتقايضها بمقاومته، ولكنها تصرفت على نحو ممتد عن سلوكها المستمر في محاولة إفشال حماس، لكن هذه المحاولة كانت الأخطر، لأنها لم تكن محصورة بالتنافس الفلسطيني الصرف، ولكنها كانت في سياق إقليمي ودولي كان في القلب منه العدو الصهيوني.
اليوم خرجت فعاليات متعددة من فتح، على مستوى النشاط والمؤسسات، وعلى مستوى شخصيات قيادية، لتحرض مباشرة ضدّ حماس في غزة، بل ضدّ مقاومتها الممثلة بكتائب القسام وبنيتها التي من أهمها الأنفاق، في استغلال لأزمة الكهرباء، ودون أن يردعها مرة أخرى، أن هذا التحريض عينه يمارسه الاحتلال.
كان فوز حماس في الانتخابات التشريعية، القشّة التي قصمت ظهر العلاقة المشوبة دائما بالكراهية والشك، فلم تعد حماس منافسا محتملا، بل ولأول مرة صار ثمة شك في أن فتح هي الفصيل الفلسطيني الأكبر، وأنها "أم الجماهير". لأول مرة تجد فتح نفسها، على المستوى الوطني، رقما تاليا في المشهد الفلسطيني بعد حماس، وباختيار الجماهير.
منذ تلك اللحظة صارت حماس العامل الأهم في توجيه السياسة الفتحاوية، فحتى الخطاب الفتحاوي الشعبوي تجاه الدول والقوى والفعاليات في فلسطين والإقليم والعالم يتحدد وفق علاقة تلك الأطراف بحماس، وعلى مستوى اللغة يميل الخطاب الفتحاوي الشعبوي، إلى إبداء كراهية صريحة تجاه حماس، لا تمتنع أبدا عن تعمد التشويه وتزوير الحقيقة، وهي لغة لا تتحرج أحيانا مستويات قيادية في فتح عن استخدامها.
نعم، هناك مصالح وبرامج متضاربة للغاية، وقد كرسها وجود السلطة، ولكن تراث الكراهية الذي راكمته فتح تجاه حماس طوال عقود، من أخطر ما يصنع بؤس الفلسطينيين اليوم!
فقط تخيل أن تبنى السياسات على محض النكاية، وبسبب الكراهية، وفي مرحلة يفترض أنها مرحلة تحرر وطني!