تكشف وقائع الأحداث في سوريا، أن طرفيها الفاعلين، روسيا وإيران، يستعجلان تحقيق انتصارات، مع التركيز على شكل تلك الانتصارات وجدواها الراهنة، دون التفكير بما هو أبعد من ذلك، وما إذا كانتا بالفعل تستطيعان تأسيس وجود دائم بناء على هذا الانتصار، خاصة في نسخته الأخيرة، الانتصار على أحياء حلب الشرقية.
تستأنس تلك الأطراف، وخاصة إيران، على بعض معطيات فرضتها على الخرائط الديمغرافية والجغرافية السورية، منها الاعتقاد بأن الحرب دمّرت حواضن الثورة وأنهكت المجتمعات المحلية، التي باتت عاجزة عن تغذية الثورة بمزيد من المقاتلين، وبالتالي فإن الثوار أصبحوا قوّة معزولة سيتم استنزافهم حتى إبادتهم، ومع نهايتهم ستعجز بيئاتهم عن إنتاج جيل يرفض سيطرة إيران وعميلها الأسد لعقود قادمة، وبحسب تقديرات استخبارات روسيا وإيران أن البيئة السورية جرى تنظيفها من الثوار بعد تجميع جزء كبير منهم في إدلب، وبانتظار توجيه الضربة القاصمة لهم بعد حين؟
لا يبدو مستغربا مع هذا، تصريح أحد المعممين في قم قبل سنتين من هذا التاريخ، من أن الشيعة سوف يسيطرون على منطقة بلاد الشام والعراق لـ400 سنة قادمة، وتحليل ذلك أنه بعد القضاء على الجيل الثوري الحالي في سوريا، سيتم تدجين الأجيال القادمة وتغيير هويتها وحكمها بالحديد والنار، ويتفق ذلك مع الطموح الروسي الذي ذهب إلى حد الاتفاق مع الأسد على بقاء القواعد الروسية لـ 50 سنة قادمة قابلة للتجديد، ولا شك أن روسيا تدرك بأن تحقيق ذلك مرهون بالقضاء على كل الثوار الذين يرفضون عميلها الأسد ويناضلون لإسقاطه، وذلك مما لا شك فيه، لن يتم دون إجراء هندسة جراحية مؤلمة في جسد المكوّن السوري الثائر، عبر استئصال كل مقومات القوّة فيه، وخاصة الأجيال الشابة الثائرة.
ولكن، حتى نكون منطقيين في تشخيص الواقع، لابد من الاعتراف أن روسيا وإيران لم تكتفيا بالطموحات والأحلام، بل جهّزتا بنية عسكرية حقيقية على الأرض قوامها عشرات المليشيات وقواعد عسكرية، بالإضافة إلى إجراءات موازية، من نوع تفريغ مناطق بكاملها وتهجير ملايين السكان، مما يثبت أنهما يعملان باستراتيجية بعيدة المدى، لتحويل تلك الطموحات إلى وقائع راسخة وصلبة ويصعب تغييرها.
لكن تلك الإجراءات على خطورتها، لا تكفي وحدها لحسم الموقف، وثمّة حسابات لم يتم أخذها بالاعتبار لموازنة المعادلة والتثبت من صحتها، منها أن الثورة السورية ما زالت تترع بأكثر من مئة ألف مقاتل، ولا زالوا على الجبهات في درعا والقنيطرة ودمشق وحمص وحماة واللاذقية وإدلب، وحتى إنهم لا يبعدون عن حلب سوى مسافة صاروخ غراد قصير المدى، كما أن بيئاتهم لا زالت ولّادة للثائرين على نظام الأسد، بل إن بعض الذين هاجروا مع عائلاتهم يعودون للالتحاق بالجبهات، ثم إن عمليات التنكيل التي أجراها الإيراني والروسي في حلب بقصد قتل العزيمة لدى السوريين، استفزّت ملايين العرب والمسلمين الذين سيغذون الثورة لأجيال قادمة، وعدا عن هذا وذاك، الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية ستبقى في صراع مع روسيا وإيران في سوريا، وستجد دائما الطرق المناسبة لدعم الثورة في سوريا.
غير أن الأهم من كل ذلك، هو التكيفات التي ستجريها الثورة السورية على هيكليتها وأطرها وطرائق عملها، فقد كشفت أزمة الثوار في حلب عن وجود حراك عميق داخل الأطر الثورية بهدف نسف كل الصياغات السابقة، إما لانتهاء فعاليتها وعدم جدواها، وإما بسبب المتغيرات العميقة الحاصلة في الواقع السوري، ويمكن القول إننا سنواجه في المرحلة المقبلة ثورة في قلب الثورة السورية، ثمّة مؤشرات كثيرة على وجود حالة من التململ واسعة النطاق داخل الأطر الثورية، العسكرية والسياسية، وقراءة نقدية للأسباب والمعطيات التي أوصلت الأمور إلى هذه الحالة، مع رفع درجة الإنذار داخل المكونات الثورية إلى أقصاها، والدعوة إلى إجراء التغييرات المطلوبة استحابة للتحدي المفروض عليها.
في السنتين الأخيرتين من عمر الثورة، اعتقدت المكونات الثورية أنها ليست بحاجة لإجراء تحديثات على نمط عملها، حينذاك لم تكن ثمّة مخاطر تستلزم كل هذا التغيير، النظام وحلفاؤه كانوا يتقهقرون، وراحت التشكيلات الثورية تفكر بما بعد إسقاط النظام، على اعتبار أن هذه المسألة بحكم المنتهية وبانتظار طلقة الرحمة التي قد تكون موجودة في بندقية أي فصيل، وصلت المسألة حينها إلى حد الاختلاف على الحكم، من سيحكم ومن ستكون له السيطرة على السلطة، إغراءات النصر فعلت ذلك، ثوار الجبهة الجنوبية كانوا على أبواب دمشق، وثوار الشمال بدؤوا الصعود على جبال اللاذقية، وحلب لم يبق منها سوى أحياء تحت سيطرة النظام.
بين الأمس واليوم، تغيرت بعض المعطيات، لكن الثوار، عدّة الثورة الأساسية، مازالوا، بكامل عتادهم وطاقتهم وعنادهم، والتغيير المطلوب، بعد استيعاب الصدمة، تعديل التكتيكات لتحقيق الجدوى المطلوبة، وهذا ما يجري العمل عليه الآن وبسرعة فائقة، وقبل أن تنتهي ليالي احتفال روسيا وإيران وعميلهم الأسد بالسيطرة على أحياء حلب الشرقية.