مقالات مختارة

حقيقة موقف المذهب الشيعي من المسجد الأقصى المبارك

1300x600
يمثل المسجد الأقصى المبارك رمزا إسلاميا مقدسا لدى المسلمين عبر التاريخ، لأسباب معروفة يعرفها القاصي والداني، واليوم يشكل هذا المكان المقدّس أحد العناوين الرئيسة للصراع الدائر في فلسطين، وخاصة في ظل مزاعم الصهيونية حول بنائه على أنقاض الهيكل المزعوم.

وسط هذا الصراع مع الصهيونية، يحاول البعض جعل المسجد عنوانا خلافيا بين المسلمين، بدلا من أن يكون رمزا يوحدهم، في مواجهة من لا يريد الوجود لهذا المكان المبارك من الصهاينة وداعميهم. وفي هذا السياق، ومنذ فترة، ثمة كتابات ليست بقليلة على الشبكة الافتراضية وفي الصحف، ورفوف المكتبات حول أن المسجد الأقصى المبارك لا يحظى بمكانة وقداسة لدى الشيعة، وأنهم على اعتقاد بأن المسجد الأقصى المقصود في الآية الأولى من سورة الإسراء ليس المسجد الحالي في القدس، بل هو في السماء.

تعالج هذه الورقة من خلال المصادر الشيعية الوصول إلى حقيقة موقف المذهب الشيعي من المسجد الأقصى المبارك عبر بحث علمي موضوعي، ومما دفع الباحث القيام بهذا البحث هو التناقض الموجود بين كتابات هؤلاء عن مكانة هذا المسجد عند الشيعة، وبين ما يُقال ويُعلن في الفضائيات الإيرانية، وتصريحات القادة الإيرانيين حول أهمية هذا المكان المقدس.

ومن الجدير بالذكر أن هذه الكتابات تعرضت للموقف الشيعي من المسجد الأقصى، بدوافع ليست آكاديمية، ولعل اللغة السياسية المستخدمة فيها، تشكّل مؤشرا واضحا على انعدام الموضوعية في تناول الموضوع، حيث إن معظم عناوين أكثر هذه الكتابات، تحريضية بنكهة طائفية، مثل "المسجد الأقصى عند الرافضة"، أو"بيت المقدس لاوجود له عند الشيعة"، و"الشيعة الاثنا عشرية ينكرون وجود المسجد الأقصى في فلسطين" و....إلخ.

 
الآراء الواردة في المذهب الشيعي حول المسجد الأقصى:

تنقسم هذه الآراء إلى رأيين:

الرأي الأول، وهو رأي ثلّة قليلة جدا من علماء ومفسري الشيعة، يقول إن المسجد الأقصى لا يوجد في الأرض وإنما في السماء، هذا الرأي يستند إلى روايات تعتبر أن المسجد الأقصى الوارد اسمه في القرآن الكريم في الآية الأولى من سورة الإسراء مكان مقدّس، لكنه يُوجد في السّماء.

الرأي الثاني، وهو رأي الغالبية المطلقة لعلماء ومفسري الشيعة، يؤكد أن المسجد الأقصى هو الذي في فلسطين في مدينة القدس، هذا الرأي يستند إلى روايات تنقض الأولى، معتبرة أن المسجد الأقصى المبارك الذي ذكره القرآن الكريم في الآية المذكورة، موجود في القدس وهو مكان مقدّس، وللصلاة فيه فضل كبير، ويشار إليه أحيانا ببيت المقدس.

لقد بنى أولئك الكتّاب وتلك المواقع الإلكترونية موقف الشيعة من المسجد الأقصى على الرأي الأول المبني على روايات ضعيفة، دون أدنى إشارة إلى الآراء، والروايات والأحاديث التي وردت في كتب الشيعة قديما أو حديثا، حول أهمية هذا المسجد وموقعه في فلسطين وبيان فضائله.

أولا، فيما ورد في الرأي القائل بموضع المسجد الأقصى في السماء:

أ- هذا الرأي يستند إلى روايتين عند الشيعة، وردتا في تفسير الآية الأولى من سورة الاسراء، يقول العالم الشيعي اللبناني الشيخ جهاد عبد الهادي فرحات في كتابه "الشيعة والمسجد الأقصى"، إنّ "روايتين فقط تذكران أنّه في السماء، وهما ضعيفتان سندا ومردودتان مضمونا، وغير معمول بهما لدى علماء الشيعة، وأنّ المسجد الأقصى هو المسجد الأقصى المعروف في فلسطين المحتلة."

ب- الروايات القائلة بموضع المسجد الأقصى في السماء، يعود عمرها إلى ما قبل ألف عام ونيف، ولم يتم تبنيها في التفاسير والكتب الشيعية بعد تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين، ليُتهم الشيعة بأنهم متعاونون مع الاحتلال الصهيوني في النيل من المسجد الأقصى.

ج- الرأي القائل عند الشيعة بوجود المسجد الأقصى في السماء، رغم ضعف الروايات التي يستند إليها هذا الرأي، يبقى مجرد رأي فقهي وتفسيري، لذلك استغلاله سياسيا لمناكفة طائفة بعينها يخرج الأمر عن سياقه الفقهي الطبيعي والموضوعية العلمية، وهذا يأتي في سياق مماثل عند أهل السنة عند التعامل مع الروايات الضعيفة الواردة حول مسألة هنا وهناك.

د- تنقض الروايات القائلة بمكان المسجد الاقصى في السماء، روايات وأحاديث أخرى، قوية في الدلالة، والمضمون، والسند وردت في الكتب والتفاسير الشيعية.

ثانيا، ذكر كبار علماء الشيعة المعتبرين روايات قوية، تؤكد أن المسجد الأقصى المذكور في سورة الإسراء موجود في الأرض:

أ- أورد الشيخ أحمد بن محمد بن خالد البرقي في كتابه "المحاسن": عن علي عليه السلام قال: الصلاة في بيت المقدس، ألف صلاة.

ب- قال الشيخ محمَّد بن علي الصدوق في كتابه "من لا يحضره الفقيه": «قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: المساجد الأربعة: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وآله، ومسجد بيت المقدس، ومسجد الكوفة، يا أبا حمزة الفريضة فيها تعدل حجة، والنافلة تعدل عمرة.»

ج- كذلك ذكر الشيخ الصدوق في كتابه "ثواب الأعمال": «عن علي عليه السلام قال: صلاة في بيت المقدس، ألف صلاة.»

د- قال السيّد محمّد كاظم اليزدي في العروة الوثقى إنه يستحب الصلاة في المسجد الأقصى، وفيه تعدل ألف صلاة.»

هـ- أكد الشيخ محمد السبزواري في کتاب "جامع الأخبار"«الصلاة في المسجد الحرام مائة ألف صلاة، والصلاة في مسجد المدينة عشرة آلاف صلاة، وصلاة في بيت المقدس ألف صلاة.»

و- كذلك الشيخ محمد بن الحسن الطّوسي يذكر في كتابه "المبسوط في فقه الإمامية" في باب "أين يكون اللعان"، المسجد الأقصى ضمن أشرف البقاع التي لا يصح اللعان إلا فيها.

ز- كذلك المرجع الشيعي المعروف آية الله علي السيستاني يقول في كتابه "منهاج الصّالحين": «تستحب الصلاة في المساجد، وأفضل المساجد المساجد الأربعة، وهي المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وآله والمسجد الأقصى ومسجد الكوفة.»

ح- في كتابه "تحرير الوسيلة" يذكر مؤسس الثورة الإسلامية الإيرانية آية الله العظمى السيد روح الله الموسوي الخميني، أن المسجد الأقصى من ضمن المساجد التي يستحب الصلاة فيه.

ط- في كتاب "النوادر"، يتحدث فضل الله بن علي الراوندي عن خيرة بقاع الأرض، منها المسجد الأقصى، قائلا: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، خيرة البقاع: مكة، والمدينة، وبيت المقدس، وفار التنور بالكوفة، وإن الصلاة بمكة بمائة ألف صلاة، وبالمدينة بخمس وسبعين ألف صلاة، وببيت المقدس بخمسين ألف صلاة، وبالكوفة بخمس وعشرين ألف صلاة.

ثالثا، يستند هؤلاء الكتاب والمواقع الإلكترونية في بيان موقف الشيعة من المسجد الأقصى إلى كتاب "المسجد الأقصى إلى أين؟" للعالم الشيعي اللبناني الشيخ جعفر مرتضى العاملي، حيث يتهمونه بتبني موقف عدائي من المسجد الأقصى من خلال التأكيد أن مكانه في السماء وليس في الأرض، بينما يرد الشيخ العاملي نفسه على ما أثير حول كتابه هذا في جوابه لرسالة عالم سني بتاريخ 12/2/2010، قائلا: "لقد ذكرت في كتاب «المسجد الأقصى أين»: أن البقعة المباركة التي تبلغ مساحتها 145 ألف متر مربع هي التي يطلق عليها اسم بيت المقدس، وفيها قبور الأنبياء ومحاريبهم، وفيها باب حطة، وفيها المسجد ذو القبة الخضراء الذي أسسه عمر بن الخطاب حين زار القدس بمشورة من علي عليه السلام.. وفيها أيضا مسجد الصخرة، وغير ذلك.. إن هذه البقعة ـ بيت المقدس ـ مقدسة عندنا، والصلاة فيها تعدل ألف صلاة. كما ورد في روايتنا.."

رابعا، ثمة حقائق معاصرة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تتبنى المذهب الشيعي رسميا، تدحض ما يذكره البعض كموقف الشيعة من المسجد الأقصى، هذه الحقاق كالتالي:

1ـ لا يمكن لأي شخص أيا كان موقفه من إيران وثورتها الإسلامية عام 1979، والمذهب الشيعي، أن ينكر حقيقة دامغة، وهي حضور القدس والمسجد الأقصى في فكر مؤسس هذه الثورة، فمن أبرز معالم هذا الحضور، هو إعلان الجمعة الأخيرة في شهر رمضان من كل عام، يوم القدس العالمي، وكذلك إطلاقه تصريحات وأقوال قوية حول أهمية القدس وضرورة الحفاظ عليها.

2ـ تسمية ذكرى حريق المسجد الأقصى المبارك، اليوم العالمي للمسجد، حيث سمّت الجمهورية الإسلامية الإيرانية يوم 21 أغسطس (ذكرى حريق المسجد الأقصى) في كل عام "اليوم العالمي للمسجد"، وأقرت ذلك منظمة المؤتمر الإسلامي بناء على اقتراح طهران. وفي هذا العام (21 أغسطس 2016)، قال قائد الثورة الإسلامية "آية الله السيد علي الخامنئي" في احتفال بهذه المناسبة: «لا ننسى أن يوم المسجد يوم ثوري، هذا اليوم تم إقراره في منظمة المؤتمر الإسلامي بناء على طلب واقتراح قدمته الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمناسبة ذكرى حريق المسجد الأقصى، وهو يوم لمواجهة العدو الصهيوني، هذا ما يشكل أساس تسمية هذا اليوم، فمن خلال هذه الرؤية يجب النظر إلى يوم المسجد، والعمل في هذا المسار.»

3ـ طباعة عشرات الكتب حول القدس والمسجد الأقصى المبارك في إيران، وتخصيص مادة دراسة حول المسجد الأقصى في فرع "الدراسات الفلسطينية" بكلية الدراسات العالمية في جامعة طهران، وهو فرع حديث الولادة، حيث تتناول هذه المادة الدراسية أهمية المسجد ومكانتها الإسلامية لدى المسلمين الشيعة والسنة.

4ـ تخصيص مساحات أدبية، وخاصة الشعر لقضايا فلسطينية، وعلى رأسها قضية المسجد الأقصى، وهنا على سبيل المثال وليس الحصر، نشير إلى أبيات شعرية من قصيدة، نظمها ثلاثة شعراء إيرانيين شباب بالاشتراك هم: "محمد مهدي سيار، وميلاد عرفان پور، وعلي محمد مودب".

رسيد جمعه ي آخر سلام قدس شريف
سلام قبله ي صبر و قيام، قدس شريف
حان يوم الجمعة الأخيرة (يوم القدس العالمي)، فسلام على القدس الشريف
وسلام على قبلة الصبر والصمود، سلام على القدس الشريف
سلام على القلب الجريح للمسجد الأقصى
مسجد، قال عنه ربنا: باركنا حوله
سلامنا لك ولأياديك المغلولة
سلامنا لك ولقداستك المنتهكة

خامسا: لعل البعض يستشهد بما قاله العالم الشيعي الكويتي المتطرف "ياسر الحبيب" عن عدم قداسة المسجد الأقصى، في الرد على ذلك، يجب القول إن هذا الشخص وأمثاله لا يمثلون اليوم قاطبة الشيعة، وإنما يمثلون تيارا متطرفا فيه، سمّاه قائد الثوة الإسلامية أكثر من مرة بـ "الشيعية البريطانية" أي هم شيعة صنيعة بريطانيا.

خلاصة القول، إنه من خلال هذا البحث تبين أن الفضائل والمواصفات التي يذكرها أهل السنة حول المسجد الأقصى المبارك، هي نفسها التي عند  الشيعة. وسياسيا، كما عند السنة، يشكل المسجد الأقصى أيضا عنوانا محوريا من عناوين الصراع في فلسطين مع الصهاينة الغاصبين لأرض فلسطين والقدس في الفكر الشيعي.

كما ستبقى القدس والمسجد الأقصى رمزا للوحدة بين المسلمين بكل طوائفهم، ولاسيما في هذا الظرف التاريخي الدقيق الذي يُدفع فيه المسلمون سنة وشيعة نحو صراع دام سيأكل الأخضر واليابس، إن لم يتحرك عقلاء الطائفتين لتحجيم نقاط الخلاف عبر البحث في المناطق الرمادية عن حلول للقضايا السياسية الخلافية.