لا يزال الدكتور محمد البرادعي يحتفظ بالقدرة على إثارة الجدل، فيصمت دهرا، وعندما يخرج للناس بتغريدة، فإنه يحدث صخبا، يؤكد إحساس خصومه أنه لا يزال إلى الآن رقما صحيحا في المعادلة المصرية!
مؤخرا لم يطل على الرأي العام بتغريدة، وإنما أصدر بيانا طويل التيلة، لعله من حيث عدد الكلمات، هو الأهم من بعد بيان التنحي، الذي غادر على إثره القصر الجمهوري والبلاد، في رحلة بيات شتوي، يقطعها ببضع كلمات ثم يعود إلى بياته، بعد أن يكون قد أحدث صخبا، ومثل ما يكتبه حجرا في بحيرة السياسة الراكدة في مصر!
لأن الرجل، ولعلاقاته الدولية، يبدو مؤشرا بتغريداته على أن هناك جديدا في الأوساط الغربية تجاه الحكم في مصر، فإنه يحدث اهتماما من الأطراف كافة، إلى درجة اصطفاف من ينتمون لدوائر رفض الانقلاب مع الانقلابيين في الهجوم عليه، وكل فريق له "في مدح النبي غرام".. كما يقول المتصوفة.
الرافضون للانقلاب، يرون أن نهوض البرادعي من بياته، يعني أن هناك جديدا في الدوائر الغربية، بوصفه "ترمومتر" لها، فلا بد من تشويهه حتى لا يكون هو البديل للسيسي، فقد هرموا من أجل هذه اللحظة التاريخية التي تبحث فيها واشنطن عن بديل، لا بد أن يكون منهم، وظهور البرادعي من شأنه أن يعقد الأمور ليكون هو هذا البديل، فإذا كان الضغط من أجل المصالحة، فإن ظهوره معارضا سيجعل من حركة المعارضة للسيسي تتجاوز الإخوان، وبظهور البرادعي لن يكونوا هم الطرف الوحيد الذي من حقه التفاوض، وفي المقابل فإن جماعات الانقلاب يعرفون أن ظهوره ليس من فراغ، وأنه لو قرر أن يقود المعارضة في مصر، فإن علاقاته الدولية ستنهي هذا المشهد البائس، لاسيما أن سؤال الغرب الدائم لمن يحدثهم عن فشل السيسي وما هو البديل؟!
ومما يؤسف له أن يستعصم الرافضون للبرادعي من دوائر رفض الانقلاب بالاسطوانة المشروخة ذاتها، التي يرددها الانقلابيون بهدف تشويهه والإساءة إليه، عن دوره في تدمير العراق، وهي الدعاية نفسها التي رددها نظام مبارك وإعلامه، في وقت كان الإخوان أنفسهم يحتشدون خلف البرادعي، عندما كانت كل القوى تحتمي في حصانته الدولية، وقد زايد هو عليهم بأنه يحتمي في الشعب المصري!
لقد رددت أنا على هذه الدعاية في عهد مبارك، بأن الوكالة الدولية للطاقة برئاسة البرادعي جاءت تقاريرها لتقول بخلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، مما دفع بوش لاحتلاله دون قرار دولي، حرمه منه البرادعي بتقاريره هذه، في حين أن ما عزز الموقف الأمريكي هو ما وشى به الواشي مبارك، الذي تحول لمخبر لدى الإرادة الأمريكية وأخبرهم بأنه شاهد هذه الأسلحة بنفسه، وهو ما ردده الغزاة في حينه.
في معركة تشويه البرادعي الذي جاء يزاحم على "الكعكة"، لا يمانع القوم من ترديد ما كان يرددها نظام مبارك، وهو أمر لو صح لأفقدنا جميعا الثقة والاعتبار الوطني، لأننا كنا مع البرادعي ندفع به للثورة على مبارك، وليكون هو البديل له، وقد مثل وجوده قطع لقول كل خطيب كان يتساءل عن البديل.
وإذ ظللت حتى أغلق باب الترشيح للانتخابات الرئاسية في 2012، أعلن أنه خياري الأفضل إذا ترشح للانتخابات الرئاسية، فقد نفضت يدي منه بعد ذلك، وقبل انحيازه للانقلاب العسكري، وعندما طالبته في يوم "المقتلة" عندما حاصر الشبيحة من القوى المدنية مقر جماعة الإخوان المسلمين، بإدانة إراقة الدماء التي يقوم بها أنصاره، إن كان بالفعل ينحاز للدم المصري بإطلاق، فلما لم يفعل: قلت هذا فراق بيني وبينك، لكن هذا الفراق لم يدفعني لترديد اتهامات نظام مبارك له من المشاركة في تدمير العراق، فقد كان ما جرى يكفي وزيادة، لإثبات أنه ليس بالشخص الذي يتعالى على جراحه من أجل المبادئ، فهو ينتقم لنفسه، بعد أن ضن عليه الدكتور محمد مرسي بمنصب رئيس الوزراء، وما أظن أن الرئيس فعل هذا إلا بنصيحة من العسكر، الذين ورثوا من مبارك كراهية الرجل، وكانوا يرون أن وجوده في المشهد، لن يمكنهم من إفشاله أو التآمر عليه لعلاقاته الدولية، لذا فقد عملوا منذ تنحي مبارك على تهميشه، وساعدهم على ذلك من انتحلوا صفة شباب الثورة وكانوا من أنصار البرادعي، فما حاجتهم له وهم يجالسون رئيس الحكومة ويتباحثون مع مدير المخابرات الحربية ويخالطون أعضاء المجلس العسكري!
وعندما أعلن البرادعي تنحيه واستقالته من منصب نائب رئيس الجمهورية معلنا احتجاجه على ما جرى في رابعة، كان ردي إن رابعة وإن كانت المجزرة المروعة فقد سبقتها مجرزتان: الأولى هي مجرزة الحرس الجمهوري والثانية هي مجزرة المنصة، فلم نسمع له اعتراضاً على الدماء التي سالت، ثم إنه تصرف منذ مشاركته في جبهة الإنقاذ، مدفوعا بروح الانتقام لنفسه، فداس على المبادئ بالحذاء، وتحالف مع خصوم الثورة، فدخل ميدان التحرير كتفا بكتف، مع سامح عاشور، الذي قال إن حزبه الناصري لن يشارك في مظاهرات 25 يناير؛ لأنه لا يعرف هوية الداعين إليها، وخطب في مقر حزبه على بعد خطوات من ميدان التحرير إن مبارك خط أحمر. كما دخل الميدان كتفا بكتف مع السيد البدوي شحاتة، الذي هاجمت قناته "الحياة" الثورة كما التلفزيون المصري، وحذر شباب حزب الوفد من المشاركة، وعندما أصروا على المشاركة قال فليشارك كل منكم على مسؤوليته الشخصية. كما دخل الميدان مع رفعت السعيد، الذي حول حزب التجمع إلى مرفق من مرافق الحزب الوطني!
لم يكن البرادعي إذن ينطلق من قاعدة الثورة، ولكنها الحرب والرأي والمكيدة، وكذلك فعل خصومه من دوائر رفض الانقلاب، فلم يطالعوا بيانه، ولم ينتظروا كيف يمكنهم الاستفادة منه!
في مساء يوم إطلاق البرادعي لبيانه، شاهدت على قناة "الجزيرة مباشر" مرافعة ثلاث من قيادات الثورة هم محمد البلتاجي، والمتحدث باسم الحرية والعدالة الدكتور عامر، وعصام سلطان، في القضية المسماة بفض رابعة، وكان الثلاثة يبذلون جهدا جهيدا في الطلب من المحكمة تشغيل فيديوهات الفض، لإثبات أن القاتل ليس من بينهم أو من بين المعتصمين، إذ حول نظام السيسي المجني عليهم إلى جناة، والقتيل إلى قاتل، وشهادة البرادعي هنا تمثل قيمة مضافة، فينبغي على الدفاع طلبه للشهادة، فإن رفضت المحكمة الاستجابة لهذا الطلب الجوهري وحكمت بالإدانة كان رفض الاستجابة من مبررات نقض الحكم، وهو طلب سيضع الانقلابيين في حرج بالغ، فليس البرادعي بالشخص الذي يمكن للسيسي اعتقاله في المطار، ولو فعل وحيل دونه ودون الشهادة فلن يمكن للقاضي الفصل فيها دون الاستجابة لطلب الدفاع!
بيد أن الخوف من مزاحمة البرادعي للقوم في مجال المنافسة السياسية، جعلهم لا ينشغلون بمدى الاستفادة من شهادته، وقد أقر في شهادته أن مفاوضات كانت تبذل للفض السلمي للاعتصام وأن السيسي هو من قاد البلاد إلى بحر الدماء، وقاد بمفرده الاتجاه لاستخدام القوة لفض الاعتصامات!
خطورة شهادة البرادعي ليس في أنها تمثل دليل براءة للمتهمين في قضية فض رابعة، ولكنها تعد دليل إدانة يمكن أن يقود السيسي إلى المحكمة الدولية، وهو وإن كان نجح في دفع الغرب لتصديق أن اعتصام رابعة كان مسلحا، فقد كشفت عنه الشهادة غطاءه، وهى شهادة جاءت وفق قاعدة: "فين يوجعك؟! تماما كما فعلها من قبل مع الرئيس مرسي وجماعته، فقد كنا نرى أنه كائن غربي الثقافة، فإذا بالتجربة تثبت أنه أخذ حظه من جينات المكايدة المصرية، فيندفع للانتقام وفي اللحظة المناسبة!
السيسي استشعر خطورة شهادة البرادعي وتوقيتها، فأغرى به صبيانه من مؤسسي حركة تمرد، الذين قالوا إنه كان يعلم أن المجلس العسكري قام بتغيب الرئيس مرسي وليس كما قال في شهادته بعدم علمه بذلك، إلا بعد اجتماع ظهيرة 3 يوليو 2013، وهي نقطة ليست جوهرية في هذه الشهادة، ولكنهم بذلك يمدون رافضي الانقلاب بورقة للهجوم عليه، وهم الخائفون من عودة البرادعي للحلبة السياسية من جديد!
ولم ينتبه القوم من معسكر رفض الانقلاب، إلى أن مصلحتهم أن يعود البرادعي للمشهد السياسي، فهذه أكبر ضربة للانقلاب، وأن يستغل ثقله الدولي الذي استخدمه في الإطاحة بالرئيس المنتخب، في الوقوف في وجه هذا الانقلاب، حيث لا توجد هناك خطة للإطاحة به إلا السخرية من السيسي على "الفيس بوك" والنوم بعدها، وقد تملكنا الشعور بالانتصار عليه!
ومثلي قد يقبل باستبعاد كل من شارك في 30 يونيو، من المشهد شريطة أن تكون هناك خطة للانتصار دونهم، لكن كلنا نعلم بعدم وجود خطة أو محاولة لإسقاط الانقلاب، وإذا كان البعض شعاره في الحياة فلتنتصر الثورة بنا وحدنا وإلا فما انتصرت، فيؤسفني القول إن البرادعي ليس عائدا ببيانه للمشهد السياسي وليست لديه رغبة في القيام بأي دور، فقد كان ما يشغله هو الانتقام، وعندما انتقم من مرسي وجد أن الفاتورة لعنة ستلاحقه تاريخيا، وهو مشغول بالتاريخ وبمخاطبته، وهذه الشهادة وإن استهدفت الانتقام ممن تلاعبوا به، واستغلوه حتى بلوغ غايتهم، فإنه يبدو بها أن يخاطب التاريخ: فلست مسؤولا أيها التاريخ عن كل هذه الدماء!
البرادعي معني بفكرة الخلاص الشخصي فاعقلوها، فلن يزاحمكم على حكم، ولن ينافسكم على المصالحة!