كتاب عربي 21

عن وهم القضاء على داعش

1300x600
في خضم معركة الموصل، وخطط "تحرير" الرقة، والاستعدادات التركية للمرحلة التالية من عملية "درع الفرات" بدخول مدينة الباب، بمعنى مواجهة تنظيم الدولة - داعش في معاقله الثلاث الرئيسة في كل من سوريا والعراق، يبدو لي الحديث عن "القضاء على داعش" مبالغة غير مبررة أقرب إلى الوهم والأحلام منها إلى الواقع العملي.

لا أتحدث هنا عن الجانب العسكري المجرد من المعارك بل عن المنظور الأشمل لمواجهة التنظيم بما هو أعمق من المواجهة العسكرية أو مرحلة ما بعدها، لكن حتى هذه دونها العديد من العقبات والتحديات المهمة. صحيح أن قوة التنظيم قد بولغ بها كثيراً لأن وجوده وتمدده خدما مصالح العديد من الأطراف، لكن التقديرات بانتهاء معركة الموصل خلال أيام أو ضمن سقف أسابيع قليلة أيضاً مبالغ بها إلى حد كبير، وربما ساهم بها التقدم الميداني السريع في الأيام الأولى، فضلاً عن الدعاية المصاحبة للعملية.

ذلك أن تعدد الأطراف المشاركة - والراغبة في المشاركة – في العملية يفرض تحديات صعبة على تقدمها الميداني ونتائجها، سيما وأن هذه الأطراف مختلفة الأهداف والأجندات، بل تتقاطع مصالحها وتتضارب أولوياتها. هنا، تبرز تحديات ليست بالهامشية تتعلق بآلية التنسيق بين مختلف الأطراف وترتيب أولويات المعركة وضمان التزام الجميع بالخطة الموضوعة وعدم تغولها أو تجاوزها للحدود المرسومة لدورها ومنع المواجهة بينها، وصولاً لضرورة منع الاحتكاكات على أسس طائفية (في ظل خطاب الحشد الشعبي وسجله المعروف) وتقليل عدد اللاجئين والنازحين قدر الإمكان وتغطية احتياجاتهم. كما لا يمكن الجزم بسرعة العمليات الميدانية وسقف نتائجها، فالتنظيم يدافع عن معقل رئيس له وهو يتقن فنون الكر والفر (لاحظ مبادرته نحو كركوك) كما أنه احترف أساليب التمترس بالمدنيين والعمليات الانتحارية والمفخخات، وهي كلها عقبات ميدانية مهمة.

هذه التحديات الميدانية مهمة، ومهمة جداً، وأعتقد أنها كانت وما تزال ضمن الحسابات وقد ألمحنا إليها سابقاً (قبل توقف التقدم الميداني مؤخراً)، لكنها ليست ما أعنى بوهم القضاء على تنظيم الدولة - داعش، ذلك أن دحر التنظيم عن الموصل والمدن الأخرى شيء والحديث عن "القضاء عليه" كفكر وكتنظيم أمر آخر مختلف كلياً.

فعلى صعيد التنظيم، ليس خافياً أن داعش لا يلتزم التراتبية الهرمية الصارمة في القيادة والمركزية الشديدة في الإدارة، بل إن الانضمام له كان يتم ببيعة عن بعد في سياق عملية مدوية وليس بالتواصل المباشر والاعتماد المركزي، وبالتالي فإن هزيمته في معاقله الرئيسة وملاحقة و/أو قتل قياداته لا يضمن بالضرورة القضاء على التنظيم.

ما هو أهم يتعلق بفكر داعش وسردياته التي لاقت تجاوباً من قبل كثير من الشباب. فرغم حرص البعض على حصر ظاهرة داعش بالفكر المتشدد أو بالتراث الإسلامي وما شابه، إلا أن أسباب ظهور التنظيم وانضمام الشباب له متعددة ومتشابكة، تبدأ من القهر السياسي والأزمات الاقتصادية وغياب العدالة الاجتماعية، ولا تنتهي عند الاحتلال الأجنبي والتدخلات الخارجية والاحتقان الطائفي وغياب المرجعيات.

واليوم، حين ننظر في التحالفات القائمة في معركة الموصل لمواجهة داعش، سنجد من كانوا أهم أسباب ظهور داعش وليس من يمكن التعويل عليهم لمواجهته، سنرى دولاً أجنبية لطالما احتلت هذه البلاد وقتلت من أهلها وميلشيات طائفية تهدد "أحفاد قتلة الحسين" بالثأر (تصريح لا يمكن قصره على داعش، بل رآه أهل الموصل يستهدفهم) وأنظمة تمارس القهر والفساد والإقصاء كما يتنفس البشر وتيارات سياسية - عسكرية تسعى لإثبات الذات وتثبيت الحضور ودولاً إقليمية تضع نصب عينيها التمدد والنفوذ والسيطرة. والأخطر في كل ذلك أن هذه الأطراف المختلفة والمتناقضة تسعى لتقاسم الكعكة بعد انتهاء المعركة بما يخرج أصحاب الحق من المعادلة تماماً ويديم مظلوميتهم وتهميشهم ويحولهم إلى ضحايا دائمين، وأتحدث هنا عن "الكعكة" على مستوى المدن مثل الموصل والرقة، وعلى مستوى البلاد سيما العراق وسوريا، كما على مستوى المنطقة برمتها.

باختصار شديد، إن مقاربة ظاهرة بالغة التعقيد مثل تنظيم الدولة - داعش بمنظور أمني - عسكري محض هو عين الفشل، ولا يعدو كونه ترحيلاً للمشكلة وربما إدارتها/إدامتها للاستفادة منها كما حصل حتى الآن، إذ إن أبسط قواعد الطب والسياسة والمنطق تقول إن القضاء على النتائج/المضاعفات يتطلب أولاً علاج الأسباب/المقدمات، ومن دون ذلك ستستمر المشكلة/الظاهرة بأشكال أخرى بل ربما تتفاقم.

دون معالجة أسباب ظهور داعش الكثيرة لا يمكن الحديث عن القضاء عليه. ربما سينكسر التنظيم عسكرياً ومرحلياً، لكن محاربيه الأجانب لن يعودوا لبلادهم ومقاتليه من أهل سوريا والعراق سيبقوا في أراضيهم في انتظار الفرصة السانحة. وكما كان ثمة "تطور" في الفكر والممارسة بدءاً من التنظيمات الجهادية مروراً بالقاعدة وصولاً لداعش، سوف يكمن هؤلاء المقاتلون ومعهم الكثير الكثير من الشاب المهمش المقهور من الظلم والإقصاء والفساد، ليعود التنظيم لاحقاً في لحظة مناسبة أكثر شراسة ووحشية أو ربما تحت اسم آخر ولافتة مختلفة.