كتاب عربي 21

على هامش الانتخابات التشريعية المغربية: من "مواجهة" التحكم إلى التخويف من "النكوص"

1300x600
على عكس ما تم التعامل به مع قائد تجربة "التناوب التوافقي" عبد الرحمن اليوسفي، حين اختار الملك محمد السادس وزيرا تكنوقراطيا لقيادة الحكومة بديلا له، بالرغم من احتلال حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الرتبة الأولى في انتخابات 2002، ثلاث سنوات بعد اعتلاء الملك العرش؛ أعاد العاهل المغربي الثقة في عبد الإله بنكيران لولاية ثانية على رأس الحكومة في سابقة أولى في التاريخ السياسي المغربي.

هكذا أغلق الملك فصلا من التشكيك في إرادة الدولة في تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي، وألقى بالكرة في ملعب حزب العدالة والتنمية لعل مسؤوليه ووزراءه يرتقون لمصاف "رجال الدولة".

يعتقد كثيرون أن الفائز الأكبر في الانتخابات الأخيرة كان عبد الإله بنكيران، لكن واقع الأمر يظهر أن حزب الأصالة والمعاصرة هو الذي استطاع أن يحشر رئيس الحكومة المنتهية ولايتها ومعه حزبه في زاوية "التشكيك" في العملية الانتخابية وفخ الانتظارية القاتلة المتوجسة من قرار القصر بما يرسله ذلك من إشارات سلبية لمن يعنيه الأمر.

ولم يكن الحزب الأغلبي وحده من أصابه الخرس بل سادت الحالة وعمت معظم الفرقاء السياسيين، فبعد قليل من التصريحات ليلة الاقتراع لاذ مسؤولو الأحزاب يمينا ويسارا إلى الخرس سبيلا وحيدا في انتظار الإشارة من صاحب الأمر... وقد جاءت.

لعل مفتاح مرحلة ما بعد الانتخابات الأخيرة بالمغرب الذي سيشكل، في الأغلب، عصا موسى حزب العدالة والتنمية، يخرجها كلما اقتضت الضرورة، كان كلمة النكوص. وكان وزير العدل والحريات مصطفى الرميد، الذي حضر، وعلى غير العادة الاستقبال الملكي، أول من أطلقها في تدوينته الشهيرة أياما قبل الانتخابات حيث اتخذ من الفايسبوك وسيلة لتصريف أمور السلطة بدل المؤسسات، وأعلن فيها تبرأه من الإشراف على العملية الانتخابية ومن "أي رداءة أو نكوص أو تجاوز أو انحراف". وهي الكلمة المفتاح التي التقطها كثير من أعضاء الحزب لاعتمادها في تصريحاتهم لما بعد الانتخابات. 

"رجال دولة" يشككون في الدولة

إن كان من شيء حققه عبد الإله بنكيران وحزبه طوال الحملة الانتخابية فقد كان تهريب النقاش من تقييم الحصيلة الحكومية ومدى وفاء الحزب لوعوده لانتخابات 2011، وهو التقييم الذي غاب أو غيب وحل محله استعراض للقوة في المهرجانات الخطابية واستدرار للعواطف وبكاء على المنصات. وإن كان من شيء حققه حزب الأصالة والمعاصرة وأمينه العام إلياس العماري طوال الأشهر الأخيرة، فهو هدم كل العمل الذي قام به بنكيران وحزبه خلال الولاية الحكومية الأخيرة التي استنفذها في البحث عن نيل ثقة القصر وكسر الأحكام المسبقة التي طبعت تصورات الاثنين وعلاقتهما. 

لقد كان حزب العدالة والتنمية أداة مطواعة لاتخاذ قرارات "لا شعبية" ما كان لها أن تمر، بآثارها السلبية المباشرة على المواطن، لولا مساهمة الحزب فيها في غياب معارضة حقيقية بتجذر مجتمعي. وظل رئيس الحكومة متنازلا عن سلطات خولها له الدستور بداعي عدم رغبته في مواجهة القصر والجالس على العرش. والهدف كان تطبيع العلاقات مع الملك دونا عن المؤسسة الملكية التي كان بعض المستشارين المنتمين لها هدفا للقصف الإعلامي للبيجيديين ورئيسهم، وهو ما لم تنفع معه بعض الإشارات الضمنية في خطب الملك للابتعاد عنها قبل أن يأتي بلاغ الديوان الملكي أياما قبل الانتخابات ليضع الأمور في نصابها، ويعلن أن كل ما تم العمل على تكريسه من بناء "الثقة" بين الطرفين انتهت إلى لا شيء أو تكاد. إشارة التقطها عبد الإله بنكيران فتفادى الخوض في ما كان يسميه "التحكم" وعوضه بوصلات عاطفية خلال التجمعات.

في يوم الاقتراع، عادت حليمة إلى عادتها القديمة، وبدأ التشكيك في مجريات الأمور لحظة بلحظة ليتوج الأمر بخطأ، قد يكون له ما بعده مهما بدت الأجواء صافية، حين اعتلى رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران المنصة بمقر حزبه المركزي وقدم كأمين عام للحزب النتائج دون انتظارها من مصادرها الرسمية ممثلة في وزارة الداخلية التي تقع تحت رئاسته أو هكذا نظن. الأدهى أن الواقف وراءه كان وزير العدل مصطفى الرميد، المسؤول، مع نظيره في الداخلية، داخل اللجنة الوطنية للإشراف على العملية كلها. لم يتأخر رد وزارة الداخلية وهي تعلن عن النتائج حيث هنأ الوزير حزب العدالة والتنمية على فوزه قبل أن يضيف متحدثا عن الحزب "بالرغم من كل الانتقادات التي وجهها بصفة مستمرة، خاصة لوزارة الداخلية، طيلة العملية الانتخابية، ربما لأن هذا الحزب مازال يشك في الإرادة الراسخة لكل مكونات الأمة، وعلى رأسها جلالة الملك، حفظه الله، لجعل الممارسة الديمقراطية واقعا متجذرا وخيارا استراتيجيا لا رجعة فيه. وربما هذا ما جعل الحزب المذكور أيضا يبادر إلى إعلان بعض النتائج قبل وزارة الداخلية مع العلم أن هذه الوزارة كانت، خلال مختلف مراحل الاستحقاق الانتخابي، حريصة على أن تبقى على نفس المسافة مع جميع الهيئات السياسية".

مرة أخرى انهزم مفهوم "رجال الدولة" أمام النزعة الحزبية الضيقة، والتوجس من وزارة لم يجر أي اقتراع تحت إشرافها طوال الولاية الحكومية دون أن يخرج خلاله حزب العدالة والتنمية فائزا، والسعي إلى "فرض" أمر واقع على "الدولة العميقة" ولو على حساب سمعة الدولة "غير العميقة" التي يشكل الحزب وحكومته واحدا من تمظهراتها. وبمجرد تعيين الملك لرئيس الحكومة وتكليفه ببدء المشاورات، انقلب الخطاب إلى النقيض حيث أصدر المكتب السياسي للعدالة والتنمية بيانا مقتضبا، فالصمت والاقتضاب صار حكمة، أكد فيه أن "انتخابات 7 أكتوبر 2016 محطة مضيئة تعكس إصرار المغاربة جميعا تحت قيادة الملك على مواصلة مسيرة البناء الديمقراطي والاستثناء المغربي"، مشيدا "بحرصه (أي الملك) على تفعيل مقتضيات الدستور وتفعيل المنهجية الديمقراطية". بنكيران كان استبق إمكانية فشله في تشكيل الحكومة وبناء التحالفات بحديثة عن العودة للشعب في أمر لا يملكه وهو الذي لم يفعل اختصاصاته الدستورية لخمس سنوات. 

مشاورات تشكيل الحكومة ابتدأت. لكن لا مؤشرات دالة على أن الطريق إلى المشور السعيد، مقر رئاسة الوزراء داخل نطاق القصر الملكي، سيكون مفروشا بالورود لرئيس الوزراء المعين عبد الإله بنكيران. فحزب التجمع الوطني للأحرار مهتم أكثر بتعيين وزير الفلاحة عزيز أخنوش رئيسا للحزب بدل صلاح الدين مزوار المستقيل ضم الفريق الدستوري لفريقه البرلماني كقوة عددية للتفاوض من موقع قوة، والحركة الشعبية تتحدث عن شروط، والاستقلال يكاد يرهن قراره بقبول الاتحاد الاشتراكي الدخول معه وهو الحزب الذي صار بلا قرار مستقل، والبقية مجرد متفرجين ينتظرون الإشارات.. أما حزب الأصالة والمعاصرة فيكتفي بمقالات لأمينه العام إلياس العماري لا تعدو أن تكون مجرد "منومات" في انتظار استثمار موقعه الانتخابي الجديد.

لا جدال في أن حزب العدالة والتنمية استطاع أن يصمد في مواجهة أعدائه الحقيقيين والوهميين وأن يضمن لنفسه قيادة ولاية جديدة على عهد قطعه مع الناخبين أن (صوتك فرصتنا لمواصلة الإصلاح). لكن الأمل كله ألا يكون "النكوص" الذاتي حليف الوعود الانتخابية، وألا يشكل "النكوص" الموضوعي شماعة للقفز على الإخفاقات أو تبرير عدم القدرة على الفعل والتأثير.

ملاحظة لابد منها: حضور مصطفى الرميد لتعيين الملك لرئيسه في الحزب والحكومة المرتقبة إشارة أخرى من المخزن أن لبنكيران بديل ... ومن داخل حزبه.