قضايا وآراء

عالم تحكمه التداعيات

1300x600
في أقل من أسبوع، شهد العالم أحداثا لو حصلت في زمن سابق لتركته يترنح تحت وقع الصدمة لزمن طويل، فمن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى عودة العلاقات إلى سابق عهدها بين تركيا وكل من روسيا وإسرائيل، وما بينهما من أحداث جارية في العراق وسوريا ولبنان وتركيا، وكأن كثافة التحولات قد أفقدت العالم ليس قدرته على التنبؤ، بل وحساسيته تجاه ما ترتبه هذه التحوّلات لدرجة يمكن معها القول إن السياسة في العالم باتت تسير وفق قاعدة: " دع المقادير تجري حسب أعنتها"، فلا تقدير للمخاطر ولا حساب للتداعيات!

هل الأمور تجري بالفعل على هذه الشاكلة؟ وأن هذا العالم وبعد التطور الهائل في تقنيات تسيير العلاقات وصنع السياسات وإدارة الأزمات تراجع إلى مستوى التعامل الفطري مع السياسة، بحيث تحكم الأمور مشاعر الحدس والرغبة والأمنيات في مؤشر على عجز صناع القرار في العالم من السيطرة على السياسة نتيجة التعقيدات الهائلة التي أفرزها العصر الحديث؟

ربما لم يكن مفاجئا أن تنفصل بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، أقله على مستوى الترابط الإطاري الذي جمع الطرفين ضمن منتظم إقليمي موحد، إذ طالما عبّر الإنكليز عن إنزعاجهم من الهوية الأوروبية التي أفقدتهم ما يعتقدون أنها خصوصيتهم وتميزهم التاريخي، ضمن إطار أكبر لا يعترف بالهويات الصغرى، كذلك ليس مفاجئا أن تعود العلاقة بين تركيا وإسرائيل وروسيا وذلك نظرا للتشابك الهائل في العلاقات البينية على مستويات عدة، ونظرا لوجود مصالح ومراكز قوى تدعم تلك المصالح بالإضافة لوجود محفزات كثيرة تدفع باتجاه إعادة تشغيل محركات تلك العلاقات واستعادة زخمها، على ذلك فالمفاجئ أكثر هو انقطاع تلك العلاقات بالأصل، مثلما هو مفاجئ استمرار الارتباط بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي كل تلك العقود. 

لكن أيضا، وفي الحالتين، انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي وعلاقة تركيا بإسرائيل وروسيا، ثمة بيئة تشكّلت وواقع صلب صار حقيقة يصعب هدمه، دون أن يحدث خلخلة خطيرة في كامل الحيز الجيوسياسي الحاصل فيه، وربما أبعد من ذلك، كما في الحالة البريطانية – الأوروبية، حيث سيصار إلى تفكيك شبكة من العلاقات البينية عنوة بما يشبه عملية تخريب لقطعة نسيج متماسكة، دون أي مبررات منطقية، عملية تدمير عبثية لواقع جرى تركيبه وإدماجه وتشكيله على مدار عقود، بدءا من القوانين الناظمة ومرورا بالمؤسسات المشرفة، وليس انتهاء بعلاقات جارية بسلاسة ومرونة، بما يشمل ذلك من حركة بضائع ومواطنين وسلع منتجة بمواصفات أسواق وأمزجة معينة، فكيف ستتم إدارة هذه العملية المعقدّة وكم ستستهلك من الزمن، إذا كانت بريطانيا نفسها صاحبة فكرة الانفصال أقرّت بحاجتها لزمن طويل لإنجاز هذه العملية؟ 

في الحالة التركية أيضا، ليست القضية عودة علاقات بقدر ما هي كيفية إدارة تلك العلاقات في ظل بيئة جديدة تتشابك في قلبها التعقيدات، وخاصة تلك التي أفرزتها المواقف المتصادمة لأطراف العلاقة من الملف السوري، وذلك في وقت جعلت هذه الأطراف من هذا الملف ومخرجاته عنوانا ليس لتوجهاتها الراهنية وحسب، بل لمصائرها المستقبلية نظرا لإدماجه ضمن المشاريع الجيوسياسية لها، بل أكثر من ذلك حوّلت الموقف من الملف السوري إلى أحد ركائز استقرار واستمرار الأنظمة السياسية في تلك البلدان، وصنعت إدارات ومستويات استخباراتية وعسكرية لإدارة الملف، ووضعت موارد وميزانيات وخططا، فكيف ستحيّد بقية تفاصيل علاقاتها عن تأثير التناقضات الحاصلة بينها في سوريا؟

التفسير الأكثر ترجيحا والأقرب للفهم، أن قدرة الأنظمة السياسية على التحكم بالمتغيرات والتنبؤ بحصولها باتت متدنية بسبب تشابك وتعقيد العناصر الصانعة للمتغيرات، وربما بسبب عدم ثبات المتغيرات وتحركها الدائم، وبدل ذلك تجري محاولة توظيف واستثمار التداعيات الناتجة عنها واللعب ضمن الهامش الذي تسمح به، وخاصة وأن كل متغير يفرز طيفا واسعا من التداعيات، وهذه توّلد بدورها تداعيات جديدة، وغالبا في هذه الحالة يتم قراءة التداعيات على أنها متغيرات جديدة، ولها مدارها الخاص وتوجهاتها المختلفة، كما ينظر اليوم لمطالب كل من إسكوتلندا وإيرلندا بالانفصال عن بريطانيا، أو كما نظر سابقا للتدخل الروسي في سوريا بوصفه متغيرا جديدا، في حين أن الواقع يشير إلى وجود متغير واحد أو اثنين وحزمة واسعة من التداعيات. 

وفي عالم تسيّره التداعيات يتراجع اليقين بدرجة كبيرة وتسيطر الفوضى والمشاعر الأولية وتطفو على السطح الحلول الفردية، إن على مستوى الدول أو على مستوى المجتمعات، حيث يصبح الشك وعدم الثقة بالإضافة إلى الانتهازية، قيما مفتاحية للتعاطي مع هذا الواقع، وحينها لن يغدو مستغربا ميل البريطانيين إلى العنصرية دون أدنى إحساس بالخجل، ولا قبول تركيا البحث عن مصالحها وسط بحيرة الدم السورية.