كتاب عربي 21

العنف وازدراء الذات

1300x600
أصبحت العربية سُبّة، والتمسك بمنهجية الإسلام في الحكم مؤشر اتهام حتى يثبت العكس، هكذا أصبحت أحوال الكثير من العرب والمسلمين فيما يتناقلونه بينهم، لا ما يصفه به مخالفوهم دينيا وقوميا.

كانت جريمة أورلاندو إحدى جولات ازدراء الذات واحتقار الثقافة، وهما ما أصبح الكثير منا يتبارى فيه، ووفقا لبعض الساخطين أصبحت احتمالية فوز المتطرف "ترامب" أكبر نظرا لوجود مسلم أحمق يحمل في قلبه كل هذا الكره والحماقة والتعلق بالنصوص الدينية "القديمة"، هكذا روّج الكثيرون من أهلنا الطيبين الذين لا تكاد تمر حادثة إلا وكالوا الانتقاص والتجريح لجمهور العرب والمسلمين، باعتبارهم وباء لهذا الكوكب الوديع، وتلك الحضارة البيضاء النقية، ثم تأتي جولة أخرى تنتقص من النصوص "المقدسة"، وممن تناقلوها وفسّروها "بطائفية وعنصرية".
 
حالة التحقير للوجود العربي والمسلم، والتعظيم والتوقير للحضارة الأوروبية، كان ينبغي تجاوزها بمجرد النظر للسلوك العدواني الذي لا تزال تحتفظ به الحكومات الغربية، وآخرها الاحتلال الذي قام به التحالف الدولي لأفغانستان، وبعدها العراق بعد الترويج لأكاذيب كانت تعلم حكومات التحالف مداها، ولا ينبغي لأحد أن يحاجج بأن تلك الأمور سقطات في تلك الحضارات العتيدة، فالنظر لما قبل العدوانيْن الأخيرين "بالمنطقة" ببضعة عقود يظهر حجم الدمار الذي خلفوه بالاقتتال فيما بينهم، لا لأجل قيم يراد فرضها بالقوة -كما يقولون عند احتلال أرضنا- بل لأجل توسع إمبراطوري وبسط هيمنة ونفوذ، ولا يمكن للتاريخ أن يذكر أن عشرات الملايين من القتلى قضوا في سنوات قلائل في صراعات حدثت في منطقتنا، بل حدث ذلك هناك، ولا يمكن أيضا لأحد أن يذكر أن دولة عربية أو إسلامية "همجية ووحشية" قامت بإلقاء أكثر سلاح فتاك على وجه الكوكب -حينها- على رأس خصم لها، كما لا يمكنه أن يذكر أن صراعات بالمنطقة تجاوزت حدودها فقامت معظم الأطراف بها بالاقتتال تحت لواء أحد التحالفات، بل الصراعات المسلحة تظل محصورة بين أطرافها وتتشعب الصراعات السياسية بدرجة أوسع بين الباقين دون تورط معظم الدول في صراع مسلح.

لا يعني ذلك أن منطقتنا منطقة الرخاء والعدل، وأن هناك شرا مطلقا، فهناك ما ينبغي لشعوب وحكومات المنطقة أن تقتدي به، وهناك ما لا نحتاجه، وهناك ما ندعمه من سلوكيات، وهناك ما يمكننا أن نقول عنه دون اختلاجة عين أن ذلك سلوك منافق، كدعمهم للمستبدين مقابل بقاء مصالحهم، وانقلابهم على الديمقراطيات الناشئة في العالم الثالث إذا لم تحفظ لهم الحكومات المستقلة مصالحهم.

إن ما تعلق بحاضر الغرب وماضيه يُذكر لمن يقيسون الترقي الحضاري بالحضارة الغربية، لكنه لا يصلح كمبرر للدفاع عن السلوك الذي يصدر عن بعض المسلمين ممن تأثروا بأفكار مغلوطة، أو راعهم حجم الدمار الذي يخلفه الاحتلال لبعض البلدان المسلمة فانفعلوا بسلوك مجافٍ للدين والاجتماع البشري، ولكن ما يمكن قوله عن الجمهور المسلم العام الذي لا يستحق كل هذا الذم والازدراء، أن كل حادثة تخرج تدينها كل المؤسسات الدينية، بل حتى معظم الرموز الدينية في حلقاتهم العلمية، ولا يكاد يشذ صوت عن حالة الرفض العامة بالمنطقة، وأغلب صور الدعم لتلك العمليات تخرج من بين أفراد عاديين لا وزن لهم ثقافيا وشعبيا، وهو أمر موجود في كل المجتمعات وسيظل موجودا باعتباره ظاهرة طبيعية في أي تجمع، وإن كانت تلك الأفكار مرفوضة في السياق الإجمالي، ثم الأهم من حالة الرفض "الكلامي"، الرفض الفعلي الذي يبدو من محدودية المنضمين لتلك التجمعات الشاذة، فمثلا كانت تقديرات التابعين لتنظيم القاعدة قبل أفول نجمه لا تتجاوز العشرين ألف فرد، وفي سبتمبر 2014 قدرت المخابرات الأمريكية عدد مقاتلي داعش ما بين 20000 وبين 31500 مقاتل، ومعلوم أن قسطا غير قليل منهم انشق عن القاعدة، وهذا من بين مليار و600 مليون شخص، فهي تنظيمات شاذة عن ثقافة مجتمعات المنطقة، ولا تكاد تجد لها موضعا، خاصة إذا كانت لهم مناطق تحت إدارتهم تسمح للمؤمنين بأفكارهم أن ينضموا تحت لوائهم دون قيد أو خوف من ملاحقة أمنية، ورغم ذلك الأمان النسبي لا نجد الملايين يصطفون للانتساب إليهم.

الإشكال الآخر المرتبط بقضايا العنف في الغرب التي يقوم بها مسلمون، يتوجه للانتقاص من النصوص الدينية، أو تفسيرها لتناسب فكرة متصلة بأيدلوجية صاحبها، لا لتخرج متسقة مع منبع ثقافتها، ويقال في معرض هذا: "الدين ليس حكرا على أحد"، والحق أن الدين ليس حكرا على أحد، ولكنه بالمقابل ليس كلأً مباحا لكل أحد ليقول فيه بما يريد دون الالتزام بالمناهج العلمية المنضبطة لتفسير النصوص، وكما ينبغي منع من لا دراية له بالطب من التشخيص والعلاج، كذلك ينبغي منع من لا دراية له بقواعد استنباط الأحكام من النصوص، وهي آفة يشتكي منها العلمانيون، وولدت لنا التطرف بصوره، وبالمقابل يشترك العلمانيون في خطأ الدواعش نفسه في وجهِ إرادة تفسير النص دون الإلمام بقواعد الاستنباط ثم مراعاتها، لأن الإلمام وحده لا يكفي.

إن إشكال ازدراء الذات والثقافة نابع في الأصل من الانهزام الحضاري، الذي هو تابع بدوره لآثار الاستبداد الذي سبب كل صور الجمود والتخلف، بدءا من الحالة السياسية والاقتصادية، وانتهاء بالحالة الدينية والثقافية، ولا يقدر منصف على الإشارة إلى نهضة في مجتمعاتنا وقف أمامها الدينُ حائلا.