كتاب عربي 21

في بيتنا شبيح

1300x600
هذه المرة بدا الأمر مختلفا، فتحت الباب على وجه ضابط في الستينيات من العمر، له عين واحدة، فالثانية ملونة بريشة بيضاء، كان" السيكلوب" يتحدث بلهجة السلطة الموقرة، اللهجة السكين. قال لي: إنهم سيقيمون في شقتي حتى القضاء على مظاهرات الحي، فشقتي هي الأعلى في البناية ومنها  يمكن مراقبة نصف الحارة الملتهبة بالمظاهرات مثل بقية أحياء المدينة، وذلك شأن يطول حُقبا، فرفعت يدي علامة الاستسلام مع ابتسامة مغتصبة اغتصابا. قال: تسمح لنا.. دخل العقيد البخاري من غير أن آذن له، يجرُّ وراءه دخان سيجارته، وتجول في الدار ببوطه ماشيا على السجاد الطاهر مثل شوارزكوف على البيداء العربية الطاهرة، فنحن مثل دور معظم أهل البلد كل دار مسجد بلا محراب أو مئذنة، النعال تُخلع عند العتبة، أما المتشددون فيخلعونها خارج الشقة، مؤذين بها سكان العمارة. الأحذية على الباب بدلا من الورد.

لم تكن أول مرة أفتح فيها باب الشقة على الخوذ الحديدية والجزم العسكرية المداهمة للتفتيش، قالت ابنتي الصغرى: بيتنا صار شارعا وطريقا عاما من كثرة الدهم. صححت الوسطى: بل جبهة حرب. قليل الدهم الأول لم يخلُ من تهذيب مصطنع وغريب، لم يكن له معنى ما دام تفتيش الدار حتميا وإكراها، إن العسكر إذا دخلوا منزلا أفسدوه وجعلوا أعزة أهله أذلة وكذلك يفعلون. كنت أقدّر تهذيب الضابط المرافق، وأنسبه حسب صوت اللهجة. عرفت أن بعضهم يحاول انتحال لهجة أهل الشام كيدا ومكرا. في البدايات كانت المداهمات من الجيش النظامي، واحتفل أهل الحي معهم، وقضى الأهالي والعسكر أياما سعيدة، كانت الموائد تنزل بالطعام في أوقات الأكل الثلاثة على الجنود أنواعا وأشكالا وألوانا حتى سمنوا..  قال المجندون: كنا نموت من الجوع في الكتيبة، الضباط يسرقون الطعام، فلا نأكل إلا الفتات. وقعت عينه السليمة على آية قرآنية معلقة بالخط الديواني الجلي في أعلى الديوان: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ، فامتعض، وعدّها علامة عداوة وبغضاء ورجعية وخيانة لفكر سوريا التقدمية الاشتراكية. أمر الضابط، الذي عرفت أنه عقيد من رتبة رئيس ليبيا من نجومه على الكتف الجنديين بالمرابضة لدى الباب، وبدأ جولة تفقدية في الشقة، أول ملاحظة لعينه الوحيدة كانت كبر الشقة، سأل عن مساحتها، وما إذا كانت إيجارا أم ملكا، وسألنا عن عدد أفراد الأسرة، نظر إلي وإلى زوجتي والبنات الثلاث، وقال بلهجة ضابط تفقد:
 
في واحد غياب، تشكيل فرار!!

قلت: ابني مسافر للدرس والعلم في جامعة دمشق..

سأل عن كليته وهزّ رأسه علامة على الإعجاب بنبوغه.

قصد المطبخ ونطق بالملاحظة العسكرية الاستراتيجية الثانية: براد البطريق!! وأقسم بحظه، ويبدو أنّ الحظ رب من الأرباب: أن البطريق من أحسن البرادات، وأنه عقيد في الجيش، ولم يكن لديه سوى براد "بردى" حتى الأمس القريب، السبب هو أنه لا يسرق، قال: إن الضباط كلهم "يفيّشون" للعساكر إلا هو، فهو شريف. فتح الباب فوجد  العقيد الشريف صحنا من التفاح، مدّ يده وقضمها من غير أن آذن له فأثبت لي عزته وشرفه.

الملاحظة الثالثة كانت عن الأَسِرَّة التي  صممها صديق نجار في غرف النوم، فأبدى إعجابه بها، وسأل عن تصميمها الغريب، فقلت: هذه الأسرّة يمكنها أن تقف على قدمين نهارا  أو على أربع ليلا، فأقسم بحظه المقدس أنها أَسِرَّة رائعة.. لاحظ الملاحظة العسكرية الرابعة وهي أنه يوجد في البيت جهاز تلفاز، فقال: معناها أنت دخلك جيد، وسألني فيما إذا كنت أرتشي مثل بقية موظفي الدولة، فضحكت وقلت:  وظيفتي ليس لها باب أو نافذة رشوة، وأخبرته عن مهنتي ومهنة زوجتي، فهزّ رأسه عن  إعجاب.  العسكريون والمخابرات يعدون أن الموظفين موالون في الأغلب. سألني عن رأيي في مؤامرة بندر بن سلطان، فسكتت، سأل ثانية، فقلت ما أكثر المؤامرات على الشرفاء. أقسم أن البيوت التي دهمها كلها فيها برادات، وهو لا يعرف شعبا عنده أجهزة تبريد  ويتظاهر!.. قلت: لعله تأثير الفضائيات المسمومة، فأقسم بحظه: إن  هذا هو السبب .. وقال إن الرئيس تساهل معنا، فلو كان محله لأغلق السماء بالبيتون المسلح، وجعل مشاهدة قناة الدنيا فرضا وواجبا عسكريا. أبدى حدبا قويا على زميله العقيد القذافي، وأنكر ما يفعله الشعب الناكر للجميل، قائد شجاع وكريم وينتفضون ضده.. هذا شعب يستحق الحرق.

قلت في نفسي: لعل شعبه بلا برادات.

لم أقرأ  أن الثورة الفرنسية كانت بسبب برادات ؟!!                                              

وقف في الممر الطويل الذي تقف على جانبيه الغرف، وهو يدخن ، وأومأ إلى آية قرآنية معلقة في صدر الممر، تقول بخط النسخ الجليل:  وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ  وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ. وقال لي إنه يشك في أنني من الإخوان المسلمين، فابتسمت ولم أجب، قال: بيتك كله آيات قرآنية، ولا صورة واحدة لسيادة الرئيس أو أقواله؟

وقعت في حرج، وشردت بعيدا، وعملت ذكائي في البحث عن جواب لين، وعرفت لاحقا أنّ  أكبر العقول وأذكى الأجوبة لا تعادل كلمة حق من لسان صدق، فقلت مداجيا: صديقي مصمم الأسرّة الجميلة هذه، مهندس مسيحي يزعم لي أنه ملحد، زرته في بيته فوجدت الشقة مزينة بعبارات من الإنجيل، سألته عن العلة وهو ملحد، فقال: إن زوجتي هي المؤمنة. تابعت في التشريد والطراد: صور الرئيس في كل مكان، وأقواله أيضا، أما القرآن الكريم ... توقفت فلعلي دخلت مخاضة يصعب الخروج منها... انتبهت عينه الوحيدة إلى السجادة، فقال متهما: وتصلي أيضا؟

قلت: صديقي إلياس المسيحي يصلي وهو ملحد، وسيادة الرئيس يصلي أيضا.. فسكت، لعلي وفقت أخيرا على جواب حسن.

قال إنه ضبط مجندين بالجرم المشهود يصليان في الجيش، وقد غابا عن الدرس الذي كان فيه محاضرا، فلقنهما درسا لن ينسياه. سألت عن الدرس الذي غاب عنه المجندان الآبقان، فقال: إنه كان يشرح عن بارودة الصاموبال، كان هذا هو الدرس الوحيد الذي لزمنا من الثانوية إلى نهاية التدريب العسكري في الجامعة، ومعها البارودة الكندية ذات الكعب المصنوع من خشب الجوز الإيطالي ومداها المجدي ومداها الأقصى الذي بارك النظام حوله.

قصد غرفة الاستقبال، أتبعه أنا وزوجتي التي لحقته حتى تضع له منفضة السجائر، تناول جهاز الريموت،  ونفض سيجارته على السجاد، كنت قد احتطت لهذا الأمر وأخفيت القنوات المحرمة بين ألفي قناة،  وجعلت في مقدمتها فضائيات التبن والمتة. وهو يبحث عن القناة المقصودة، سأل: أين فضائية العرعور؟

تساءلت متغافلا: العرعور؟.. قال مستنكرا: يعني لا تعرفه! صاحب قناة صفا، كبست له على زرٍّ يصنف الأقنية حسب الأحرف الأبجدية فوجدت القناة، وقال هذا هو شيخ الفتنة وسأل: أعندكم متة؟
 قلت: لا ..

ضحك ونظر بعينه الوحيدة: لأنه مشروب طائفي؟

قلت:  لدينا خير كثير.. شاي أخضر وأحمر وأسود .. قهوة ...كركديه، عصير،  وقلت كلمة شعرت أنها أجرأ كلمة قلتها منذ اقتحامه الشقة: لا أحبُّ المتة. وأخفيت عنه أني ما إن أرى أحدا يشربها، حتى يسقط من عيني.

قال: هات شاي..

قلت: من عيوني .. وقصدت المطبخ، فقال محتجا على مبادرتي لإعداده. وأمرني أن أجلس لنتحادث، دع المدام تعمله، لعله أحسَّ أني أهرب من الحديث معه، فجلست وقلت له من عيوني ..

أشعل سيجارته العاشرة: ما قصتك عيوني.. ومن عيوني .. أتسخر من عيني ..؟

قلتُ: أعوذ بالله.. هذا كلام سائر على الألسنة، كلام أهل الشام .. واستغربت أن يترقى ضابط أعور بعين واحدة إلى هذه الرتبة، فسلامة الأعضاء شرط من شروط العسكري المجند، فكيف ترقى إلى هذه الرتبة؟!  الجندي المعاق يعفى من الجيش، فلا بد أنه متطوع فدائي.

رن هاتفي، إنه جاري، ويطلب المساعدة في عطل كهربائي، استأذنت منه، فأذن لي في " مأذونية" من غير "فيش"  خرجت من غرفة الاستقبال، فلوحت لي زوجتي التي سمعت الحديث، وقالت: تتركنا مع هذا الكافر!! 

قلتُ لزوجتي ساخرا: سوريا دولة علمانية لا كفار فيها، كل سكانها مؤمنون بالرئيس.

قالت: واضح أنه كافر، ومسلح وأعور ومجنون، وسكران أيضا.. الستائر شبعت رائحة دخان.

قلتُ لها: سأعود بعد ثلاث دقائق.

تناولت المفك الكهربائي وخرجت، فاستوقفني العسكريان على الباب وطلبوا الهوية، فأيقنت  أني أعيش رواية من روايات كافكا: يصحو شعب فيجد نفسه صراصير والرئيس قردا.. ابتسمت لهما، سألاني فيما إذا كنت قد استأذنت سيادة العقيد، فهززت رأسي .. تركاني .. عدت بعد خمس دقائق.

كان سيادة العقيد يثرثر كثيرا ويمدح نفسه، ويصدر الأوامر للعسكريين اللذين يتصرفان كعبدين حقيقيين، فأحسُّ بحرج ونقص في الإنسانية، والعار، عقل العقيد أعور أكثر من عينه، جلسنا نشرب الشاي المطيّب بالقرفة، شكا لي إن ولديه في الجبهة يحاربان ضد الجماعات المسلحة وكانت قد ظهرت مؤخرا، وأنه خائف عليهما من الانغماسيين، وكانت قد ظهرت بعد سنة من انطلاق الثورة، وبدأ يخطب ويدخن واضعا بوطا على بوط. سألت عن عمل الولدين، فقال إن أحدهما  ضابط أمن فندق خمس نجوم، والثاني ضابط متطوع.  نظر إلى المكتبة، وعدها مكتبة كبيرة وسأل فيما إذا كنت قرأت كل هذه الكتب؟ فهزّزت رأسي، فقال إذا كنت قد قرأتها فأنت مثقف.

في المكتبة كتب كثيرة ممنوعة يحرم تداولها في سوريا، لكني أشك في أنه يعرفها.  قلت له: الكتب مثل الطعام يأكل الإنسان كثيرا من الوجبات ولا يعرف أيها كانت سببا في نموه.

نظر إلى كتاب في أعلى المكتبة فقال: هذا قرآن؟

قلت: مصحف كريم بخط مغربي.

نهض وقصد المكتبة وتناول المصحف الذي يلمسه المسلمون طهرا بوضوء إجلالا، شممت منه رائحة عرق، لم يكن يحتاج إلى عرق حتى يمنح عقله إجازة، قلب صفحات المصحف وأخبرني أنه يحفظ جزءا  كاملا من القرآن، فاستغربت.. وقال لي تستغربون وتظنون أننا كفار.. فقلت: المهم أننا مواطنون سوريون .. وجاملته مخاتلا: نحن دولة علمانية لا تفرق بين مواطنيها على أساس الدين.  

اقترح أن يسمعني سورة المطففين، فبدأ يتلوها بسرعة طفل طلبت منه المعلمة تسميع الدرس، وأنفاسه تتلاحق، في نهاية السورة  جعل الفعل المبني للمجهول المعلوم اسما: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. وقال لي: ما رأيك؟

كان سيادة العقيد، مطففا، كلمة كلمة، زنقة زنقة، جملة جملة،  لم يتل آية على الوجه الصحيح، قلت:  إن الأبرار.. لفي نعيم، وليس الفجار؟ 

فتح المصحف الذي كان معلقا في يده على سورة المطففين، وقال: صحيح .. وأقسم بحظه على أمر  لم أفهمه..

انتبهت عينه الصحيحة إلى ما عدها أخطاء إملائية، فالمصحف المغربي ينقط حرف القاف بنقطة واحدة أما الفاء فنقطتها من تحت .. هل هؤلاء ضعاف بالإملاء وعلوم النحو؟

وضحت أنّ المسألة اعتبارية، فقال: لو أن الأمر بيده لأراهم نجوم الظهر!

ظهر برنامج العرعور في حالة الإعادة، فسكت يتابعه، فاعتذرت، وطلبت منه مثل عسكري مجند إذنا للنوم، فقال لي مستغربا: أنت تنام مبكرا!!  قلت: عندي عمل صباح غد، فهز بوطه علامة الفهم، تركته وقصدت غرفة النوم، في طريقي رأيت العسكريين جاثيين أمام الباب المفتوح. استنكرت زوجتي: حلو والله .. كم سيمكث هذا الصهيوني هنا؟ حمدت الله أنه لم يكلفني بالحراسة.

قلتُ: اخفضي صوتك .. لا أعرف. النساء سبب كل المصائب لا يقدّرن الواقع حق التقدير، قلت لها: إن حظنا أحسن من غيرنا..فهم في حالات مشابهة يحتلون الدار، ويطردون صاحبها من أجل الوطن المعطاء، هل تنتظرين مني أن أحارب الجيش الباسل.

بدأت زوجتي تلومني وكأنني أنا السبب في هذه الغزوة التي صارت فيها سبيّة، وصرت فيها عبدا، وبدأت تحضني على عمل مظاهرة ضده. سمعنا أصوات المظاهرة الليلية في الحي تنطلق، ما إن انطلقت تعلو بالهتاف حتى دخل العقيد من غير استئذان مقتحما غرفة النوم مسلحا ببندقيته الآلية الروسية.. وجلس على السرير، فنفرت زوجتي مذعورة، قال إنه سيصطاد بعض المندسين المخربين والإرهابيين، بدأت المقاومة والممانعة في  الزمان والمكان المناسبين أخيرا..

شتم: عراعير.. وأطلق سيادة العقيد رشقة نارية، فصرخت البنات في الغرفة الثانية، وصاح صبية متألمون من أثر إطلاق النار عليهم غدرا، وتفرقت المظاهرة.. وكان هذا يعني أن عينه السليمة تحسن التصويب، وأنّ شقتي صارت مشموسة، ومصنّفة مع الفجار عند كل أهل الحي، وأن كتابي كِتَابٌ مَّرْقُومٌ، ولَفِي سِجِّينٍ،  وَمَا أَدْرَاكَ ما سِجِّينٌ، وأنني يجب أن أرحل غدا تاركا البيت، مثل بقية الشعب السوري، لسيادة العقيد الأعور ...

مع براد البطريق طبعا.