كتاب عربي 21

عندما يصبح حفظ القرآن مصدر انقسام في تونس

1300x600
يدور في تونس جدل عن القرآن؛ إذ قررت وزارة التربية تخصيص العطلة المدرسية لتنظيم حملة بالتعاون مع وزارة الشؤون الدينية لتمكين التلاميذ من حفظ ما تيسر من السور والآيات. لكن هذا القرار أثار ردود أفعال مفاجئة، حيث اعتبر البعض أن ذلك لم يكن عملا عفويا، وأنه لا يخلو من خلفية سياسية، وقد يندرج ضمن اتفاق سياسي بين حزبي نداء تونس وحركة النهضة.

ليست هذه المرة الأولى التي يخضع فيها القرآن الكريم للتجاذبات السياسية. لقد سبق أن اندلع صراع عاصف لا يزال مستمرا إلى حد الآن حول ما يعرف بـ"الروضات والمدارس القرآنية ". وهي ظاهرة جديدة برزت في تونس بقوة بعد الثورة، حيث شهدت مناطق عديدة، وخاصة بالأحياء الشعبية قيام "مؤسسات تعليمية" موازية للمنظومة المعترف بها من قبل سلطة الإشراف. 

وبالرغم من أن الهدف المعلن من قبل أصحاب هذه المؤسسات هو نشر تحفيظ القرآن للأطفال، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، وإنما اتسع المجال مع دخول السلفيين بقوة على الخط مستعينين بدعاتهم القادمين من المشرق ومن الخليج وما حصلوا عليه من دعم مالي ولوجستي؛ وذلك بغرض تثبيت خطاب ديني ونمط مجتمعي يتعارضان مع القيم السائدة في تونس، من ذلك منع الاختلاط بين الأطفال، وانتشار ظاهرة الحجاب في صفوف بنات لا تتجاوز أعمارهن خمس سنوات. كما تولت منقبات تنشيط هذه الروضات والمدارس، وهو ما أحدث رجة قوية داخل الأسر وفي أوساط الرأي العام، وتولد عن كل ذلك إطلاق معركة حامية ارتبطت بالحرب الدائرة في تونس منذ ثلاث سنوات ضد الإرهاب.

أصبح جليا اليوم أن المناخ السياسي السائد منذ الثورة قد حال دون التعامل بوعي ومسؤولية وجدية مع المسألة الدينية في تونس. وهو ما جعل حتى تعليم القرآن للأطفال يتحول إلى موضوع خلافي بين مكونات النخبة، في حين إن هذه المسألة كانت من ثوابت السياسة التي اعتمد عليها الرئيسان بورقيبة وبن علي رغم الصراع الذي أداره كل منهما ضد حركة النهضة.

هناك فرق بين الدين والقرآن كوحي ثابت من ثوابته، وبين توظيف الدين من قبل ما يسمى حركات الإسلام السياسي، التي لا خلاف في أنها قد تستفيد من حركة حفظ القرآن، لكن لا يمكن بناء على ذلك التضييق على مبادرات تحفيظ القرآن بحجة الخوف من اختلال موازين القوى لصالح خصم سياسي، والذي لم يدركه البعض حتى الآن بأن الدعوة إلى التضييق على مثل هذا النشاط دون حجة مقنعة من شأنه أن يؤدي إلى نتائج عكسية، إذ بدل أن يستفيد العلمانيون من ذلك يقع استغلاله ضدهم، وقد تحشرهم في زاوية حادة وخطيرة بحجة أنهم ضد القرآن وضد هوية الأمة، كما يستعملها خصومهم من مختف التيارات ذات المرجعية الدينية التي غالبا ما تحسن إدارة مثل هذه المعارك لتثبت بكونها حامية الإسلام والمقدسات. وهكذا، بدل أن يدور التنافس الحقيقي بين الأحزاب والقوى الاجتماعية حول معضلات الواقع والبحث عن كيفية دعم الحريات وتحقيق العدالة والمساواة، يستمر تغييب الواقع بإشغال المواطنين بحروب هامشية.

يجب إبعاد القرآن عن التجاذبات ذات الطابع السياسي والأيديولوجي؛ لأن مثل هذه المعارك ليست سوى محرقة جماعية من شأنها أن تعمق الانقسام المجتمعي، وتفتح الأبواب أمام الخطابات المتشددة سواء الدينية منها أو العلمانية، والتي لا تؤدي في الغالب إلا إلى حروب تبدأ باردة لكنها يمكن أن تتحول إلى نزاعات ساخنة قوامها استعمال السلاح والاقتتال الأهلي.

عندما تم الانتهاء من صياغة الدستور صفق الجميع من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي أو من المواطنين، وظنوا أن ذلك من شأنه أن يضع حدا للصراع حول الهوية، لأن نص الدستور قد حسم هذه المسألة بشكل واضح ووفاقي، لكن يبدو أن تحويل ذلك إلى واقع عميق يحدد السلوك الفردي بين المواطنين لا يزال يتطلب جهودا نظرية وعملية وتربوية حتى يستقر في النفوس لكي يصبح إجماعا حقيقا وليس فقط إجماعا ظاهريا. وهو أمر ليس خاصا بالتونسيين فقط، وإنما مرت به المجتمعات الغربية التي انتقلت تدريجيا وعبر عشرات السنين من الاستبداد والحروب الأهلية إلى الديمقراطية العميقة والمؤسساتية. 
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع