قضايا وآراء

مُنقَلِبو ما بعد "الثورة"

1300x600
سعيد مهران البطل الرئيس في رواية "اللص والكلاب" التي استطاع فيها نجيب محفوظ تخليد نماذج متكررة في التاريخ والمجتمع المصري، واستخدم نجيب الأسماء للتعبير عن سخريته من كل شخصياته، فسعيد مهران ربما هو أتعس من شهده الأدب المصري وهو أيضا لا يمتلك أي مهارة حتى عندما يقرر القتل كان دائما يقتل الشخص الخطأ، وكذلك رؤوف علوان الذي لا يمتلك من اسمه شيئا، ولكن سعيد مهران يمتلك قدرا من الإنسانية تجعله يندم على جريمته الخطأ ودرجة من التمرد غير المنظم يجعله يسير به في الاتجاه الخاطئ، بينما يمتلك رؤوف علوان قدرا عاليا من المكر والذكاء ولكنه يستخدمه في سحق الآخرين لتحقيق أحلامه.

تحول سعيد مهران من عامل إلى لص على يد رؤوف علوان ثم تحول إلى مقاتل يبحث عن حقه الضائع وينتقم من كل رؤوف علوان، بينما تحول رؤوف علوان من المثقف إلى الصحفي اللامع رفيق السلطة.

قصة سعيد ورؤوف قصة متكررة ولكنها تأخذ أشكالا أخرى، وبصرف النظر عن التفاصيل تصبح الصورة في النهاية كيف تتحول وتتغير مسارات البشر وكيف يمكن أن يستمر التناقض بين مجموعتين ولكنهم فقط يتبادلون المساحات أو يتحركون في مساحات واحدة على مسافات واسعة، ونحن نعلم بالضرورة أن هناك مساحة واحدة فقط هي الصواب.

عندما أتذكر نخب الثلاثين من يونية ومدى الحماس المنقطع النظير في دعوتهم لما تسمى القوات المسلحة بالتدخل لحماية الدولة المدنية، أشعر مدى منة الله على كل من لم يشارك في هذا الحدث، وأنهم نجوا من فضيحة تاريخية لابد للموثقين والمؤرخين تدوين أسماء كل من شارك فيها؛ كما أشعر أنها أحد أكثر الجرائم سذاجة في التاريخ، والأكثر إضحاكا –وكم بمصر من المضحكات- أن هناك من لا يزال يصر على صحة موقفه وأنه كان على الحق المبين، وربما لا تمتلك القدرة على التوقف عن الذهول عندما تجد البعض ممن سُحِلوا وقُتِلوا وشُردوا يجتمعون ويرحبون بنخب الثلاثين من يونية، وتجد أحد نجوم المجتمع الاصطفافي يغرد من أجل أحد زعماء الانقلاب، إن كل من لم يشارك في هذه الجريمة عليه الإيمان أن خيرا له أن يكون سعيد مهران عن أن يكون رؤوف علوان.

على أية حال أصبحنا الآن في قلب المأساة التي صنعتها نخبة 30 يونية ومن والاها، ولا زالت تلك "النخب" تشعرك أنها صاحبة الثورة وأن من سواهم سرابا؛ وتجد البعض يتحدث وهو يرى في نفسه محمد عبد الكريم خطابي أو عمر المختار أو تشي جيفارا أو عبد الله النديم، ففي سورة الإسراء الآية 37 قال تعالى (ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)، هذا الخطاب ربما يوجه لمن استطاعوا تحقيق حلم شعوبهم وكانوا على قدر المسئولية كنخب للمجتمع؛ أو قاوموا وناضلوا حتى النهاية فانتهوا إلى ما انتهى إليه الأبطال الصامدون في المقاومة؛ فهؤلاء  قد يبلغون من الفخر والقوة ما يدفعهم ربما لخرق الأرض أو الإحساس بالارتفاع لقمم الجبال وهذا لا يحدث في الغالب مع الأبطال الحقيقيين. أما من ملأ الدنيا صخبا وملأته الدنيا عنادا وظن لسبب مجهول أنه من صناع الثورات وقادتها وأنها ملكية خاصة به فلابد من التوقف حتى لا يأتي اليوم الذي يتلاعبون به في المفاهيم التي احتكروا تفسيرها ليصبح فيه الانقلاب ثورة.

مهلا لقد حدث ذلك فعلا؛ عفوا فقد تذكرت الآن أن نخبة 30 يونية من "صناع الثورة" قد قالوا ذلك! قالوا إن 3 يوليو ثورة، لقد حدث ذلك فعلا ويحاول  غير المشهورين وآخرين القضاء على هذا التشويه البائس للمفاهيم التي صنعتها نخب 30 يونية حتى نستعيد مفهوم الثورة الحقيقي الموجود في الكتب والمعاجم؛ والذي لم نمارسه حتى الآن في مصر منذ مائتي وثمانية عشر عاما منذ ثورتي القاهرة الأولى والثانية على الاحتلال الفرنسي؛ منذ ذلك التاريخ ونحن نحاول استكمال ثورة القاهرة الثانية إلا أن "النخب" تقف لنا بالمرصاد.

أتذكر الآن إيفان فيودورفتش في الإخوة كارامازوف عندما صعقه أخوه سمردياكوف الذي قتل والدهم؛ حين قال له إنك شريك له في الجريمة؛ لم يصدق إيفان في بادئ الأمر إلا أنه عندما استعاد في ذاكرته حواراته مع أخيه سمردياكوف؛ لم يكذب إيفان على نفسه وأقر لنفسه على الأقل أنه شريك في الجريمة وسعى جديا لتخيف آثار جريمته ولم يستمر في تبريرها. سمردياكوف أيضا لم يحتمل عقله الضعيف ما حدث فهو ليس نخبويا كأخيه إيفان؛ ولكنه شخص ضعيف قليل العلم اقتنع بأقوال أخيه "النخبوي" فسحقته تلك الأقوال وقتل أباه ثم قتل نفسه.

إذا لم تستطع أن تكون مثل ايفان أو على الأقل مثل سمردياكوف فالصمت الكامل يسع الجميع والبكاء الطويل على أشرف الدماء المصرية ربما يكون الطريق الوحيد الباقي لنخبة الثلاثين من يونية ومن التحق بهم. ولا أمل ولا نجاة لمصر إلا بتجاوز نخبة 30 يونية بلا استثناء مهما كانت العقبات والتضحيات؛ فهي "النخب" التي رأت نفسها صاحبة الحق في التغيير وأنهم أصحاب "الثورة"؛ وحكايات الاصطفاف ما هي إلا محاولات مستميتة للاحتفاظ بنخبة 30 يونية؛ فالنخب – كل النخب- تفضل الاستقواء ببعضها مهما كان حجم دماء الشعب على أن تلتحم مع الجماهير التي ربما تكسر قيود تلك النخب للأبد.