كتاب عربي 21

قرض جديد من صندوق النقد: تونس تغرق

1300x600
تفاوضت هذه الأيام الحكومة التونسية في أجواء معتمة للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، وذلك على خلفية استغراق التونسيين في قضايا أهم ومصيرية من نوع صور الصفوف الطويلة أمام احد العرافين المغاربة الذي يرش (أو يبصق) الماء الساخن من فمه على مريديه لتحقيق أحلامهم، إلى الموقف السكيزفريني للسلطات التونسية التي وافق وزير داخليتها على قرار يخص السياسة الخارجية في مؤتمر وزراء الداخلية العرب حول إعلان حزب الله "منظمة إرهابية"، مقابل تصريحات وزير الخارجية المحملة بمشاعر الأقدام والشجاعة من نوع "لسنا معنيين بالقرار" و"صوتنا معه حتى لا تغضب منا بقية الدول العربية".

أما مجلس نواب الشعب، فمهتم بأمور أخرى، وتحديدا غالبية النواب المنتمين للقوى التي كانت تهيمن على تونس قبل الثورة. من ذلك تصريح النائب أحمد السعيد الذي احتج على تطبيق القانون القاضي باقتطاع أي غيابات من أجور النواب، قائلا بكل فخر على الهواء: "لسنا عمال حظائر (عمال التنظيف الأقل أجرا) لكي يتم اقتطاع أجورنا بسبب الغيابات". للإشارة، السيد النائب كان الثاني على قائمة حزب "التجمع" المنحل في انتخابات 2009، وكان ممثله في مجلس نواب مرحلة الاستبداد وتزوير الانتخابات.

فبعيدا عن أي رقابة، ودون القيام باي عملية تقييم جدية لآثار القروض السابقة على تونس، تم في وقت متأخر أمس 3 مارس الإعلان في بيان مقتضب من جانب واحد عن صندوق النقد الدولي على موافقته منح تونس قرضا جديدا بقيمة 2.8 مليار دولار (أكثر من خمسة آلاف مليار تونسي). وجاء في الإعلان أن "المضي قدما في الإصلاحات أمر حيوي بالنسبة لاقتصاد تونسي يواجه عديد التحديات الضخمة". وهكذا تم ربط القرض الجديد بشروط اتباع "الإصلاحات". 

ويأتي هذا القرار في اليوم ذاته الذي اصدر فيه "البنك الدولي" وثيقة تخص علاقته بتونس بين سنتي 2016-2020 يتم تداولها في أوساط ضيقة. وتناقش أساسا وثيقة "توجيهية" للتنمية الاستراتيجية التي أصدرتها الحكومة. ومن الواضح أن "البنك الدولي" ليس متحمسا بما في الكفاية لمستوى "الإصلاحات" المقترحة (سنعود بشكل أكثر عمقا لهذه الوثيقة المهمة). 

يحدث ذلك ونسبة الدين الخارجي الراهن أكثر من خمسين في المئة من الناتج الداخلي الوطني. البعض للأسف لا يزال يعتبر أن ذلك أمرا مقبولا. فهل يسمح وضع الاقتصاد التونسي بنسبة من هذا النوع مثلما هو وضع الاقتصاديات الأقوى في العالم؟ لا يوجد الكثير من المقالات العلمية المعمقة حول موضوع الدين العام الخارجي لتونس، ومن الدراسات العلمية الجدية النادرة المعطيات والمقاربة التي قدمها الجامعي في الاقتصاد محمد ميمون في مقال صدر سنة 2013 في مجلة (African Development Review) ويعتمد فيها قاعدة معلومات تمتد على مدى فترة طويلة، ترجع إلى بداية السبعينيات، عندما أصبح الالتجاء إلى الدين العام الخارجي سياسة منتظمة للدولة التونسية. 

وانتهى ميمون إلى عدد من الخلاصات أهمها أن العلاقة بين التنمية والدين الخارجي بشكل عام. من البديهيات المعتمدة في هذا الموضوع أن هناك "حدا أقصى للدين" (debt threshold) بين أن يكون الدين الخارجي محفزا للتنمية وأن يصبح معطلا لها. بعض الدراسات التي يعتمد عليها ميمون لتحليل تاريخ التداين لـ55 دولة ذات دخل ضعيف بين سنتي 1970 و1999، تبين أن "الحد الأقصى" ينخفض كلما كنا إزاء دول نامية أو ضعيفة الدخل. في الأخيرة لا يجب أن يتجاوز "الحد الأقصى" نسبة 35% أو 40% على الأكثر من الناتج الداخلي الخام، حتى لا يؤثر سلبا على التنمية. 

كما انتهى إلى انه رغم انخفاض نسبة الدين بين سنتي 2005 و2010، فإن نسبة دفع خدمات الدين واصلت ارتفاعها بشكل مطرد. وهنا فإنه مقابل كل 100 دولار يتم اقتراضه يتم عموما إرجاع 195 دولار. النسبة المرتفعة في خدمة الدين تعني أمرا أساسيا، هو أن أحد الأسباب الرئيسية في العقود الثلاثة الأخيرة التي جعلت التداين الخارجي مستمرا هو تحديدا الحاجة لدفع خدمات الدين المتخلدة. وبمقارنة أرقام النمو في الفترة ذاتها مع أرقام الدين الخارجي بناء على نموذج حسابي خاص بتونس، ينتهي ميمون إلى مجموعة من الخلاصات المهمة. أهمها أن زيادة الدين الخارجي بنسبة 1% تؤدي إلى انخفاض سنوي لنسبة الدخل الفردي على المدى القصير بين 0.15 و0.17%، و0.27% على المدى الطويل. ولأن نسبة النمو تخضع لتاريخ النمو، ولأن الذاكرة تؤثر عليه، فإن تأثير الدين السلبي يصبح مضاعفا. 

من الضروري التذكير هنا بالبدايات. إذ بدأت قصة العلاقة بين تونس وصندوق النقد الدولي بقانون عدد 78-57 المؤرخ في 31 ديسمبر 1957 (أي منذ تأسيس الدولة الوطنية) بالانخراط في الصندوق، من خلال مساهمة مالية بحصة أولية مقدارها 12 مليون دولار أمريكي، أي ما يقارب 22.7 مليون دينار تونسي، ومنذ ذلك التاريخ، وافقت الدولة التونسية كل خمس سنوات في الترفيع في حصتها التي تبلغ حاليا 405 ملايين دولار أمريكي. منذ ذلك التاريخ تحصلت تونس على أربعة أنواع من "التسهيلات" من الصندوق.

وآخرها، اتفاق الاستعداد الائتماني (جوان 2013) ما يعادل 1,7 مليار دولار (3.21 مليار دينار تونسي) بسعر فائدة بحوالي 1.07 بالمائة، يتم تسديد كلّ قسط على مدى 5 سنوات مع فترة إمهال بـ3 سنوات. ويدعم هذا الاتفاق برنامج "إصلاحات هيكلية" تمتد على مدى سنتين، وتشمل عديد المجالات وخاصة السياسات الاقتصادية والمالية والقطاع المالي والبنكي. وكان حزب المؤتمر اعترض على هذا القرض عبر وزرائه في حكومة "الترويكا" وتم الضغط من اجل التنصيص في رسالة طلب القرض الرسمية على أن تونس في حل من أي اتفاقيات اذا أضرت بمصالحها الاقتصادية. 

وكانت تصريحات المسؤول الإقليمي لصندوق النقد الدولي قبل حوالي العام (مارس 2015) حول تونس مثيرة حيث قال: "تونس في حاجة إلى إصلاحات مهمة تنقل الاقتصاد من نموذج التنمية الحالي الذي يعتمد على تدخل الدولة إلى نموذج يطلق إمكانات القطاع الخاص… المقترحات الرامية إلى إعادة هيكلة بعض البنوك العمومية حتى تساهم في تنمية القطاع الخاص".

ألا نستحق جدالا واسعا بيننا كتونسيين بدون تدخل صندوق النقد الدولي حول ما اذا كان المشكل مع منوال التنمية القديم هو ببساطة "تدخل الدولة" حتى يصبح الحل هو الحد من تدخلها لصالح "القطاع الخاص"؟! الم تكن الدولة نفسها "قطاعا خاصا" للأسرة الحاكمة وان خريطة رجال الأعمال الأبرز الحالية تم تقريرها (خاصة عبر التدخلات غير القانونية في الإقراض البنكي) منذ سنوات من قبل هذه الأسرة الحاكمة؟! تقرير البنك الدولي منذ عامين حول تشعب علاقات هذه الأسرة داخل "القطاع الخاص" ألا يكشف عن مسألة أساسية وهو أن الدولة كانت عمليا مهمشة وغائبة عن التسيير الفعلي للاقتصاد؟! هل إن "المصالحة” التي يتم الترويج لها ستقوي الحوكمة والثقة في الدولة والقانون وبالتالي مناخ استثماري عادل أم إنها ستكرس التهرب الضريبي وعقلية البقاء لمن يدفع اكثر؟! هذه الأسئلة الحقيقية لكنها "لمن يجرؤ فقط".