نشرت صحيفة "إندبندنت" البريطانية مقالا لروبرت فيسك، قال فيه إن "قصة
الجزائر يجب أن تكون قصة (إصلاحات)، وهذا هو الحال مع معظم
الديكتاتوريات، التي تمنع وجود قيود تحدد عدد الدورات الرئاسية، إلا إذا كان الناس يريدون بقاء الرئيس المتحجر ذاته مرة أخرى، وطبعا أن تعتقد الأقلية في البلاد أن وضعها مكان احترام. وفي حالة الجزائر فإن
بوتفليقة رئيسها للدورة الرابعة، وقد أجريت له عمليات جراحية كثيرة (في أوروبا طبعا)، لدرجة أنه ينظر إلى الكاميرا وكأنه ميت".
ويضيف الكاتب: "ليس هناك داع للمبالغة في الأدب عند التحدث عن الموضوع، فعندما انتخب بوتفليقة لدورة رابعة قبل عامين، بعد الكثير من التلاعبات الدستورية، صوره راسمو الكاريكاتير والساخرون على أنه في النعش. وكانوا يتساءلون: كيف يسمح لنفسه بفرض هذه الإهانة على الجزائر؟ أليس هناك رجل حي يحكمها؟ ولو نظرت إلى آخر الصور لبوتفليقة لفهمت ماذا يقصدون، فهو بالكاد يستطيع الكلام، ومع أن عقله يعمل بحسب ما يطمئننا معاونوه، إلا أنه من الصعب عليهم توضيح كيف يمكن لهم التأكد من كفاءته، إن كان لا يستطيع التحدث إليهم".
ويمضي فيسك قائلا: "لذلك يجب التعامل مع الإصلاحات التي دفع بها بوتفليقة قبل أسبوعين في سياقها الصحيح، فالرئيس سيسمح له بدورتين فقط، وسيتم توسيع البرلمان، ويسمح لمستقل بأن يخوض
الانتخابات، وسيصدر تصريح رئاسي يسمح باستخدام اللغة الأمازيغية. وتبدو هذه الوعود كلها جيدة على الورق، ولكن البلاد، التي لا تزال تتعافى من مقتل 250 ألفا من مواطنيها وجنودها في الحرب الأهلية الطاحنة في تسعينيات القرن الماضي، والتي خرج المشاركون فيها أحيانا عن حدود تنظيم الدولة في البربرية، فقطعوا رؤوس الرضع في القرى الجبلية، تجعل من عدد دورات الرئاسة، أو الحديث عن أحقية استخدام لغة السكان الأصليين، أمورا ليست ذات أهمية".
ويعلق الكاتب في مقاله، الذي ترجمته "
عربي21"، بأن "المشكلة هي أنه خلال الحرب، تمت مواجهة الإسلاميين، الذين بدأوا باسم الجماعة الإسلامية المسلحة، ثم تحولوا إلى تنظيم القاعدة بجيش ومخابرات استخدمت معهم أشنع أنواع التعذيب المستخدم في الشرق الأوسط، بحيث اعتبرت أساليب مثل تكسير الأسنان وقلع الأظافر ممارسات بسيطة. ولجعل السجناء يعترفون، كان يتم تعليقهم وربطهم وتوضع أنابيب ماء في أفواههم، ويبدأون بملئهم بالماء، حيث قال لي أحد مقاتلي الجماعة الإسلامية المسلحة في وقتها إنه (إن بدأت في الحديث فإن هذا يعني أنك ميت لا محالة؛ لأنه إن بدأت بإعطاء المعلومات فإنهم سيستمرون في التعذيب حتى النهاية)، وهذا ما كانوا يفعلونه بالعادة".
وينبه فيسك قائلا إن "بعض العسكر طلبوا اللجوء إلى أوروبا، وكشفوا ما كان يحصل، وقالوا إنهم كانوا يعطون المخدرات ثم يطالبون بتعذيب وقتل المشتبه بهم، خاصة إن كانوا ملتحين. ورفع أحد الضباط الكبار في باريس قضية تشهير ضد جندي نشر تفاصيل تجربته في الحرب القذرة في كتاب، ولكن الضابط هرب من باريس بمجرد خسارته للقضية. والعفو الذي التزم به بوتفليقة لم يعف فقط عن (الإرهابيين) التائبين، ولكن عن العسكر أيضا".
ويشير الكاتب إلى أن "تصرفات
الجيش كانت سيئة للغاية، لدرجة أن الكتاب الجرائريين وجدوا من الأسلم لهم كتابة قصص خيالية حول تلك الحرب، لإيصال الحقيقة للقارئ. إحدى تلك القصص القصيرة، التي بيعت في الجزائر، تتحدث عن ملازم في الجيش تعامل مع الإسلاميين، فأحضرت زوجته وأولاده في طائرة هيليكوبتر إلى المكان، حيث كان الضباط قد ربطوه بالسلك الشائك، وأجبروا عائلته على مشاهدة صب الوقود عليه، وإشعال النار فيه حيا لأنه (خائن). والجميع يعرف أن هذه قصة حقيقية".
ويقول فيسك في هذا السياق: "هنا يجب أن نتحدث عن محمد مدين، الذي كان يرأس المخابرات في تلك السنوات السوداء، وقد تحول أخيرا ضد بوتفليقة، حين حصل الأخير على دورة رابعة عام 2014، وتمت في أيلول/ سبتمبر الماضي إحالة مدين إلى التقاعد، بإيعاز من وزير الدفاع وبعض الجنرالات الكبار، الذين أرادوا (تنظيف) الجيش".
ويعلق الكاتب على موقف الجزائريين قائلا: "ما صدم الجزائريين كان ظهور مدين، الذي عرف أيضا بـ(توفيق) في الصحافة الجزائرية، يلبس نظارات شمسية ويشتكي بخصوص (ظلم) الحكم بالسجن على الجنرال عبد القادر آيت عرابي، الذي كان يرأس وحدة مكافحة الإرهاب. وكان سجن عرابي بسبب (إتلاف سجلات عسكرية)، و(عصيان أوامر عسكرية). ويقول مدين إن مرؤوسه تصرف (بعاطفته)، والتزم بواجباته كونه ضابطا".
ويجد فيسك أن "هذه القضية تثير سؤالين؛ الأول، وهو السؤال الواضح، حول طبيعة تلك السجلات العسكرية التي أتلفها عرابي؟ والثاني، والأقل وضوحا، عن مدى عمق تغلغل العسكر في جسد السياسة الجزائرية في بلد كان العسكر دائما هم المتحكمون فيه؟ فهل يتم استبعاد بوتفليقة شيئا فشيئا بناء على رغبة مخضرمي الجيش، الذين يقصون جناحيه، وفي الوقت ذاته يحاولون عدم إثارة مشكلات مع البربر؟ أم أن الجيش سينقسم على نفسه، إذا فهمت كلام الصحافي المحلي نيكولاس نوي بشكل صحيح؟".
ويخلص الكاتب إلى أن "هبوط أسعار النفط بالنسبة لبلد تعتمد ميزانيته بنسبة 60% على النفط والغاز، لن تحبب (رئيس النعش) إلى شعبه. فهناك 10 ملايين جزائري يعيشون على خط الفقر، وحيث يحتشد تنظيم الدولة في ليبيا والنيجر ومالي، فغالبا ما تكون هناك يد عسكرية قوية جديدة في طريقها إلى تسلم زمام الأمور في الجزائر. وسيذهب الفرنسيون هناك لبيع الأسلحة، ويرحب الأمريكيون بحلفاء جدد في (الحرب الشاملة على الإرهاب)".