صار عمر حركة «فتح» أكثر من نصف قرن، وهذا لا يعني فقط، أنها الأطول عمرا من أية حركة تحرر وطني أخرى، بما فيها الجزائرية (1954 - 1962)، والفيتنامية بمرحلتيها الفرنسية والأميركية (1946- 1975)، وحتى الجنوب أفريقية (1960- 1994). فالأهم أنه يعني، أيضا، أن هذه الحركة لم تستطع إنجاز ما وعدت به منذ انطلاقتها عام 1965، وأن ثمة مشكلات وتعقيدات جمّة تحول دون ذلك، من ضمنها الخلل في موازين القوى لمصلحة إسرائيل، وعدم توافر العوامل الدولية والعربية الملائمة لها، ولعل هذا يشبه قضية الأكراد، من بعض النواحي.
بيد أن هذه التعقيدات والمعوّقات الخارجية لا تغطي المشكلات الذاتية الكامنة في بنية هذه الحركة، وأفكارها التأسيسية ونمط علاقاتها وأشكال عملها، الأمر الذي واظبت الحديث عنه في هذه الصحيفة، وأجملته في كتاب يصدر هذه الأيام، عنوانه: «فتح 50 عاما... قراءة نقدية في مآلات حركة وطنية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ومركز «مسارات»)، لكنني أود هنا أن ألفت الانتباه إلى الجوانب التي أرى أنها حكمت، وتحكمت، في العمل الوطني الفلسطيني، وضمنه بمسار «فتح»، والتي تتمثل في الآتي:
أولا، إن العامل الدولي يشتغل لمصلحة إسرائيل، وهو ضامن امنها واستقرارها وتطورها، وعليه فهذا العامل لا يسمح لحركة التحرر الفلسطينية أن تستثمر تضحيات شعبها وكفاحه، وهي كبيرة وباهظة. وللتوضيح فإن هذا ينطبق، أيضا، على كل محاولات التغيير في المنطقة العربية، سيما في المشرق العربي، بغض النظر عن الموقف منها، فهذا لم يكن مسموحا به في الأردن (1970)، ولا في لبنان (أواسط السبعينات)، ولا في قصة الغزو العراقي للكويت (1990)، وهو غير مسموح به في سوريا، على ما نشهد، على رغم كل التضحيات التي بذلها السوريون، وعلى رغم كل الدمار والتشريد الذي عانى منه هذا الشعب.
الفكرة هنا أن محاولات التغيير هذه استدعت ممانعات وتدخلات إقليمية ودولية كبيرة وهائلة، فكيف الأمر في حال إسرائيل، الأمر الذي يفترض بالفلسطينيين أن يأخذوه في حساباتهم السياسية، ومن ضمنه دراسة مكانتهم في معادلات القوة، ومراجعة اعتقاداتهم عن انفسهم وعن إمكانياتهم، بدلا من الاتكاء على العواطف والشعارات. وها نحن نشهد انه حتى القوى الإقليمية الفاعلة، مثل ايران وتركيا وإسرائيل، غير مسموح لها بالتحرك أو توسعة النفوذ، إلا بالقدر الذي تتيحه لها المعادلات الدولية، وتحديدا ضمن الهامش الذي تتيحه الولايات المتحدة. هذا يعني أن أي نجاح في مواجهة إسرائيل لا يتوقف على تضحيات الفلسطينيين وكفاحهم، وإنما يتوقف، أساسا، على حسن إدارتهم صراعهم، وجذبهم التعاطف الدولي معهم، وعلى التحولات في المجتمع الإسرائيلي، والتغيرات في منظومة العلاقات الدولية.
ثانيا، ما يفترض ملاحظته، أيضا، أن إسرائيل لا تتفوق على الفلسطينيين فقط في مجالات القوى العسكرية، والإمكانيات الاقتصادية، والقدرة على السيطرة، وإدارة الحكم، وإنما حتى في مجال الاستراتيجيات البديلة. هكذا استطاعت إسرائيل توليد استراتيجيات تمتص مكاسب الفلسطينيين، في المقاومة والتسوية، وفي الانتفاضة والمفاوضة، وفي بناء السلطة، وتحولها إلى خسائر. مثلا، استطاعت إسرائيل تقويض المقاومة الفلسطينية المسلحة في لبنان عام 1982، بعد حصار بيروت، بعد أن حولت هذا البلد إلى منطقة استنزاف للمقاومة ولمجتمع الفلسطينيين واللبنانيين، باستثمارها في الحرب الأهلية، وبتحويلها لبنان ومخيماته إلى حقل رماية لمدفعيتها وقذائف طيرانها. شهدنا ذلك، أيضا، في اخذ الانتفاضة الأولى (1987 - 1993) نحو اتفاق أوسلو، المجحف والجزئي، وفي كسر مجتمع الفلسطينيين في الانتفاضة الثانية، وتقويض بنى المقاومة في الضفة، وتعزيز الاستيطان، وبناء الجدار الفاصل، وإخراج المؤسسات الوطنية من القدس، والانسحاب الأحادي من غزة عام 2005.
ولنلاحظ أن إسرائيل حوّلت الانسحاب المذكور من إنجاز وطني للفلسطينيين إلى مشكلة، آو إلى عبء عليهم، مع حال الاختلاف والاقتتال والانقسام الفلسطيني، ومع إبقاء القطاع، مع مليوني فلسطيني، في دائرة الحصار. وكما شهدنا أن تضحيات وبطولات ثلاثة حروب على غزة لم تثمر في رفع الحصار عن القطاع، ولا في إدخال مواد لإعمار ما دمرته هذه الحروب.
حتى عملية التسوية حولتها إسرائيل إلى علاقات عامة لمصلحتها، ففي حين لا يهمها ظهور الفلسطينيين كأصحاب كيان سياسي في العالم، حرمت السلطة الفلسطينية من أي ميزات سيادية، وواظبت على تكريس واقع الاحتلال، وكأنه لا وجود لسلطة فلسطينية. وفي كل الأحوال، فهي في هذا المسار عملت على شق الشعب الفلسطيني، بحصر الفلسطينيين في اطار الضفة وغزة، وتهميش منظمة التحرير، ناهيك عن إزاحة الرواية الفلسطينية عن النكبة، وأخذ الحركة الوطنية الفلسطينية نحو الترهل والتآكل.
ثالثا، نجم عمّا تقدم واقع مفاده بأن الكيانات الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل) باتت وكأنها مطلوبة في ذاتها، بغض النظر عن فعاليتها، أو الوظائف المطلوبة منها، وعزز ذلك أن هذه الكيانات تعتمد في مواردها على الخارج، وأن جزءا مهما من شرعيتها يعتمد على توافق النظامين الدولي والعربي.
وبديهي أن هذا الوضع جعل هذه الكيانات كأنها مستقلة، أو متحررة من شعبها، بحيث إن قدرة مجتمعات الفلسطينيين على الضغط على كياناتهم أضحت جد ضعيفة، بخاصة مع تجزؤ مجتمعات الفلسطينيين، وغياب إقليم موحد لهم. وعلى أية حال فإن هذا الوضع أدى إلى إضعاف المبنى التمثيلي والديموقراطي في بنى الفصائل والسلطة والمنظمة، ومن ضمنها «فتح»، فنحن إزاء فصائل تأسست على التفرغ، وفي هذا الواقع فإن القيادات باتت بمثابة رب عمل، وبات الأعضاء بمثابة قوى عاملة، اكثر من كونهم مناضلين، مع الاحترام لكثير من المناضلين، الذين حافظوا على صفتهم تلك، ما نتج منه تراكم علاقات المحسوبية والولاء في هذه الفصائل على حساب المعايير النضالية، سيما أن ذلك أدى إلى غياب التفكير النقدي، وجمود الحركة الوطنية، أي جمود فكرها وبناها، وغياب فاعليتها.
بعد هذا الإيجاز للمحددات التي حكمت التجربة الفتحاوية، بما لها وما عليها، يمكن التوصل إلى ثلاث ملاحظات: الأولى، مفادها بأن ليس ثمة مفاجأة في الأحوال التي آلت إليها الحركة الوطنية الفلسطينية، فليست المرة الأولى من نوعها التي لا تنجح هذه الحركة في المهمات المنوطة بها، أو تواجه تحديات وأخطارا تفوق قدراتها، فهذه حال دول وإمبراطوريات. وربما أن ذلك يفرض على الفلسطينيين إدراك حقيقة أنهم وحدهم، وفي ظروفهم الصعبة، ومحيطهم العربي والدولي المعقد وغير المواتي، ورغم معاناتهم وتضحياتهم وبطولاتهم، لا يستطيعون الفوز على إسرائيل، ولو على مستوى إقامة دولة على جزء من الأرض، لجزء من الشعب، كما شهدنا في تعثر اتفاق أوسلو. لكن ذلك لا يمنع من رؤية مكامن قصور الاستراتيجيات أو الخيارات المتبعة، في الصراع ضد إسرائيل، وتبيّن دور العوامل الذاتية، المتمثلة في الإدارة والخطابات والبنى وأشكال العمل، في إخفاق هذه الاستراتيجيات والخيارات.
الملاحظة الثانية، تتعلق بملاحظة أن عملية التسوية ليست هي المعضلة الوحيدة، ولا الأساسية للفلسطينيين، كونها تسوية مجحفة وناقصة وجزئية، بسبب المعطيات والشروط التي أحاطت بها. والقصد عدم تحميل هذه العملية وحدها مسؤولية تدهور أوضاع الشعب الفلسطيني وقضيته وحركته الوطنية، والإضاءة على مكامن الخلل الحقيقية، التي أدت إلى إخفاق عملية التسوية، واستهلاكها، وتكريس سلبياتها. وهذه الفكرة تنطلق من فرضية مفادها بأن المشكلة الأساس تتعلق بطبيعة بنى حركة التحرر الفلسطينية، وافتقادها للعلاقات المؤسسية والديموقراطية والتمثيلية والنضالية، لأن الافتقاد لبنية من هذا النوع هو الذي جعل من المتعذر مراجعة الخيارات الفلسطينية الخاطئة، للتحول عنها أو تعديلها أو تجاوزها.
وتتعلق الملاحظة الثالثة بالتجربة التاريخية التي تثبت مرة أخرى بأن أي حركة نضالية قد تشهد مراحل صعود وهبوط، وأن معضلة حركات كهذه، سيما عندما تصبح في السلطة، أنها تبدي ميلا لاستمراء مكانتها الجديدة، والتخفف من طبيعتها «الثورية» القديمة، والاتكاء على تاريخها الكفاحي، وعلى إمكانياتها وعلاقاتها ونفوذها، من دون الالتفات إلى ضرورة تعزيز شرعية هذه المكانة، ومن دون الاهتمام بالارتقاء في خطاباتها وأشكال عملها ووسائل نضالها، وهذا يفسر حقيقة أن هذه الحركات قد تستمر، لكنها تكون أيضا قد استنفدت مهمتها التاريخية.
هذا ليس حكما على حركة «فتح»، فهذه الحركة هي التي تحكم على حالها. وإذا كان الفلسطينيون في حاجة إلى حركة وطنية، تعددية وجامعة، كالتي مثلتها، فإن ذلك مرهون بقدرتها على نفض الموات من بناها وأفكارها، أي بقدرتها على إعادة بناء ذاتها ونقد تجربتها ومراجعة خياراتها السياسية، وهذه هي الرسالة التي حاولت قولها في كتابي الذي أشرت إليه.
عن صحيفة الحياة اللندنية