نوبل التونسي أو كيف تصير واقعيا بلا طعم ولا رائحة؟

احتفال يليق بشعب ينال جائزته الأولى. شعب سعيد في التلفزة ويؤلف جملا رومانسية في حب البلاد فالجميع يحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد.  

أول شروط حبهم تحقير حب الآخرين لها. هكذا قال شاعرهم الذي حُرِم نبيذ الاحتفال. اكتب عن بلدي بشجن كبير. فالمجازون ليسوا لي وجائزتهم ضدي أنا المواطن المجهول في قائمة المحتفى بهم لم أُدْعَ إلى الحفل وما كنت لأُدْعَى. وما كنت لأذهب ولو دُعِيت فأنا مثل قاع الأرض لا تحركني المسارح المنصوبة ضد حلمي. توجد خيبة مخفاة خلف الاحتفال. بعض المحتفلين ومن جازاهم سرقوا حلم بلاد جميلة وارتكبوا خيانة الشهداء واكتفوا من المجد بصورته. وصاروا لفرط الواقعية بلا طعم ولا رائحة.

الثورات والمعنى

الثورات خلاقة المعاني والرموز. والشعوب تصنع من الأحداث الكبيرة في تاريخها إيقونات تربى عليها أولادها وتتوارثها وتتمجد بها وتتباهى. وتبالغ أحيانا في الزينة حتى تكون، تكبِر العظماء والمبدعين وتحوِّلهم إلى قدوة.

وجاءت الثورة التونسية بما لم تأت به الثورات السابقة حتى قيل أنها على غير منوال. فهي التي حررت شعبا من دكتاتور دون أن تسيل دماء أبنائها وعفت وصفحت وأطلقت موجة تحرر هوجاء في شعب عربي مقهور منذ دهور طويلة.

وكانت على أبواب مجد جديد برموز مختلفة. ثورة سلمية أنتجت مسار تغيير سياسي بلا دماء. ذلك السلام الثوري كان مثاليا. وتلك الهبة العربية كانت خيالية كرواية من العصر الرومانسي لكن ومنذ بدايتها الواعدة عمل البعض على تحقيرها وتتفيه منجزها وتفريغه من كل رمزية. فالطفل الأول الذي احترق قيل عنه صاحب البرويطة (وهي تحقير للعربة وصاحبها واستهدف لمعناه الأيقوني).

اشتغل جيش المحقِّرِين بهمَّة فتحولت الثورة إلى ندم على هروب الدكتاتور حتى خرج أنصاره يتبجحون بعصره المظلم. منعت الأنفاس من إطلاق لهب الإبداع. تبين أن عصر الدكتاتور قتل الأرواح قبل الأجساد. انكشف ناس مخَرَّبين من الداخل همُّهم الأول والأخير أن يملأوا بطونهم من الخبز الذليل.

تقدمت المطلبية الفاحشة يقودها من كان مخولا نظريا بقيادة مسيرات الإبداع: النقابة التي تبجحت بتحرير البلد من الاستعمار. يقول اليساري العالمي إنه رب الثقافة والإبداع لكن اليساري الذي أحتل النقابة في تونس جرَّ الناس إلى الزحف على بطونهم لينكبُّوا فقط على رواتب مجزية ومكاسب حسية ولقد كان له ما أراد.

الحسي الحركي هو مرادف الغريزي. والغريزي عدوُّ الرمز والمعنى. في مقابله كان هناك إسلامي يعلى طوبى علي وأبي ذر ولكنه يتماهى في الحسي الحركي ليزيد بن معاوية. السلطة والمغنم قبل الرمز والمعنى. فاجتمع الضديدان على أكل سحب الثورة وتفريغ الوطن من معانيه وتثبيط الشباب وكسر خاطره. وكانت بين الصفين ولا تزال ضباع تنتظر فضلة الصيد الوفير. لا أحد فكر في المثال حيث تتعالى النفوس على الصَّغَار.

كل ما حدث بعد ذلك هو مسار استيلاء على ثورة من قبل من لم ينجزها. فحولها بطبيعة أخلاقه ومطمحه الوضيع إلى مكسب وضيع. واستعمل في ذلك كل أفعال الخيانة والتخريب من التخابر مع الأجنبي إلى الاغتيال السياسي إلى التآمر الداخلي إلى التخطيط للانقلاب. حتى أنه خلق تراتبا بين الشهداء فواحد مكرم وآخر محقَّر. وجاءت هذه الجائزة تتويجا للمتآمرين على الثورة لا لصُنَّاعها.

ذهب أعداء الثورة ليتلقوا وساما من خارج الوطن ويزدهون على شعبهم لا على شعوب أخرى.

العيش تحت جناح الذبابة

في ثقافة التبرير الجبانة والعاجزة أمام المخاطر والتغيير يوجد مثل تونسي ذو دلالة على المرحلة.. العيش تحت جناح الذِّبَانة (الذُّبابة) أفضل من غَمَّة الجبَّانة (المقبرة) أعتقد أنه حَكَمَ سلوك المتآمرين. فقد رؤوا في احتمال الثورة قَلَبا لكل المنظومة القيمية المسيطرة (على قاعدة الخوف والاستكانة) منذ فرض الزعيم المؤسس للدولة مزاجه وطبيعة شخصيته المتآمرة الراضية بأنصاف الحلول.

الثورة كما هي وكما فهموا من مسارها أن ستعيد ترتيب المعاني والرموز وسيجدون أنفسهم خارجها وخارج مكاسبها المادية المحتملة فعارضوها بالمطلبية وساقوا شعبا ضعيف الوعي بالتاريخ (بعد أن عاني لمدة نصف قرن من التجهيل الرسمي) يستوي في ذلك من وصل السلطة مرعوبا منها ومن فقدها مرعوبا على فقدها.

أهدر السياسيون والنقابيون (المسيسون) إمكان تحويل الثورة إلى ثورة قيمية وثقافية واكتفوا بالغنم المادي فتنازعوا القليل السريع ورغبوا عن الكثير البعيد. تدبروا أمرهم السياسي (بعنوان الحفاظ على الدولة) وفضلوا التعايش بشروط القديم خوفا ورهبة بما جعل النظام القيمي الفاسد يبقى في مكانه (متناسين أن الدولة منظومة قيم).

هم الآن يعيشون ويحصلون على تمجيد الإبقاء الوضع على ما هو عليه (لذلك منحوا الجائزة). ويبدون سعداء لكنهم لا يتفطنون (أو لعلهم يفعلون ويوغلون في المحافظة) إلى أن الثورات هي خلاَّقة القيم الجديدة والتغيير الروحي والنفسي للأفراد والجماعات. وما لم تتغير منظومة القيم في نفس مسار تغيير المؤسسات فإن العودة إلى ما قبل الثورة يكون مصيرا محتوما.

جائزة شكر على الردة السياسية

من هذه الزاوية أرى أن الجائزة والذين تلقوها سعداء، هي بمثابة شكر على إجهاض مسار التغيير القيمي والثقافي الذي يعطي كل المعنى للتغير السياسي والمؤسساتي. لقد بقيت النقابة مكانها ولديها الآن جائزة دولية تميزها وتقوي موقفها المحافظ.  

ولدى المحامين ربع جائزة تجعل منهم لوبي من المصالح المتبادلة ضمن السياق الذي تكتَّلوا فيه واستثمروا كتلتهم وتخلى أشرسهم ضد الدكتاتورية عن الدفاع عن الثورة وشبابها أمام محاكم تلفيق القضايا.

أما نقابة الأعراف التي جنت كل المكسب المادي من الثورة فقد صارت الآن شريكا فعالا في السلطة السياسية وما قانون المالية الأخير الذي حفل بالإعفاءات الضريبة إلا علامة على تمكنهم من توجيه المؤسسات لصالح نفوذهم المالي.

أمَّا رابطة حقوق الإنسان التي صنفت مؤسسة رائدة في مجالها ذات يوم فقد انتهت مع الثورة إلى منظمة فئوية حزبية تقريبا تقودها الايديولوجا والتحيز السياسي. وستزيدها الجائزة إيغالا في المسار الحزبي المسيس خارج حقل الدفاع عن حقوق الإنسان، كل الإنسان.

كان يمكن أن نفرح بالجائزة فلنوبل مكانة في نفوس الشعوب. وكان يمكن أن نحولها إلى احتفال شعبي أولا ولكن عندما نتذكر أن الرباعي الذي حصل عليها ذهب يؤدي طقوس الولاء والطاعة للدولة الفرنسية قبل أن يكلم شعبه.

نفهم أن مسار المنح والتتويج لم يكن لأجل عيون الشعب التونسي، وإنما منحت الجائزة لارتهان الفاعلين المجازين لجهة خارجية أكبرت فعلهم الذي أفرغ الثورة التغييرية من مهامها وفرنسا كانت أكبر الخاسرين في الثورة لو استمرت على نهجها التغييري العميق في القيم والثقافة لأن إحدى أهم عوائق المشروع الثقافي الوطني التونسي هو ارتهانه للثقافة الفرنسية المستنفذة عالميا.

هذه المؤسسات التي هي من خارج  جهاز الحكم شكلا (مجتمع مدني سياسي) ساهمت في الالتفاف على الثورة وتفريغها لصالح أجهزة الحكم المستنفذة. وكان أكبر المستفيدين من تموقعهم خارج الثورة وضدها هو المستعمر القديم الذي عرض أدوات القتل على الدكتاتور حتى ساعاته الأخيرة.

وحصل على ما يريد كما يريد دون بذل قطرة دم واحدة. لقد جاءت نوبل المدعومة فرنسيا لتقول للمجازين شكر الله سعيكم في قتل ثورتكم. فنحن مازلنا نصنع لكم قيمكم ونوجِّه فعلكم الواقعي والرمزي. ونزيد فقط في قيمة الجائزة لزوم حالة الركود الاقتصادي في فرنسا. شكرا أنتم الآن بلا طعم ولا رائحة لكنكم لستم ماء للحياة الباهرة.