يمكن لنا أن نتوقع سلفًا، أنماطًا ثابتة من التعاطي مع العمليات التي تنفذها "داعش" في الغرب، تتمثل في البحث المعتاد عن العقل الميتافيزيقي الذي يحكم ملياري مسلم، وفي التفتيش عن حجم التعاطف مع الضحايا، أو في الجذور الدينية المؤسسة للجريمة، وعلى نحو يشبه محاكم التفتيش، وإن كانت في هذه الحالة تختلف من جهة بحثها في ضمائر وقناعات ألفي مليون، وتنميطهم كلهم في صورة واحدة، هي صورة الرأس المعمم بالقنبلة، وصدورًا عن حالة متناقضة تتسم في حدها الثاني بالتعالي "التنويري" على بقية المسلمين، وفي حدها الأول بالخضوع والهزيمة أمام الدعاية الغربية.
نكتشف هنا اتجاهين متطابقين في إدانة المسلمين، يفترض الأول أن ينشغل أفراد الأمة كلهم بلا استثناء في إدانة جريمة لم يقترفوها، وبما يتطلب من المسلمين الكفّ عن التذكير بالجريمة الغربية المركّبة من الاستعمار والقتل الوحشي، حتى في سياقات الصراعات التاريخية الغربية الداخلية، وصولاً إلى استعلاء الغربي على الاعتذار عن جرائمه المستمرة، وامتناعه عن إدانة الجرائم التي تطال آلاف العرب والمسلمين، بما في ذلك تلك التي تتم بأدوات غربية، كما فعلت آلة القتل الغربية في كل من العراق وأفغانستان، وكما لا تزال تفعل طائرات بدون طيار الأمريكية في غير مكان في هذا العالم، وكما تفعل الطليعة الاستعمارية للإمبريالية الغربية في فلسطين، حينما قتلت فقط في الحرب الأخيرة على غزة 2147 فلسطينيًا أكثرهم من المدنيين، أو كما لا تزال تقتل من المدنيين العزل في القدس والضفة والغربية.
ويفترض الاتجاه الثاني، أن المشكلة منبثقة عن نصوص مؤسسة تحضر لدى المسلمين كلهم، أو لدى الإسلاميين كلهم، في مستويات مختلفة، وبما يجعلها قابلة للتمظهر بذات الشكل العنفي المتوحش في أكثر من زمن ولدى أكثر من جهة مسلمة، في نمط من التحليل الثقافوي المبتذل في تدرجاته من إدانة القرآن نزولاً إلى السنة النبوية مرورًا بابن تيمية والوهابية، وصولاً إلى تعميمات وإطلاقات لا تذر أحدًا من الإسلاميين، أو حتى من المسلمين جميعًا!
التذكير بالجرائم الغربية، أو بتعالي المنظومة الغربية، أو فحص مستوى التعاطف الغربي مع ما يتعرض له المسلمون وقياسه إلى حجم التعاطف مع الضحايا الغربيين، أو البحث في ممارسات العنف المتوحشة التي اقترفتها أمم ومجتمعات غير إسلامية، لا يُنظر إليه، من قبل أصحاب ذينك الاتجاهين، على أنه استدعاء طبيعي طالما أن الممارسة الغربية لم تتغير جوهريًا، وطالما أن المقارنة ضرورية لفحص صحة التفسير الثقافوي الذي يحصر العنف في المسلمين ويرجعه إلى نصوص مؤسسة، ويسقط تمامًا تاريخًا هائلاً من العنف الوحشي الذي اقترفته، ولا تزال تقترفه، أمم وشعوب أخرى.
وذلك لأن هذا التذكير وهذه المقارنة تضرب النموذج القائم على العقدة المهيمنة على العقل المُستلب والمتوترة ما بين حدّ الخضوع للدعاية الغربية وحدّ التعالي "التنويري" على بقية المسلمين، ومن هنا يدّعي أصحاب هذا النموذج الهشّ، حين صدمتهم بانهيار نموذجهم المتداعي، بأن أي تعاطي منهجي آخر مع هذه الحوادث هو في حقيقته تمييع للاعتداءات أو شكل آخر من التعاطف معها، بما في ذلك مناهج التفسير التي تأخذ في ضمن أدواتها التحليلية، الغرب عمومًا، ومكان الحدث خصوصًا، في سياساته العامة تجاه المسلمين وقضاياهم ودوره التاريخي، والمستمر بأشكال متنوعة، في مآسيهم، أو في السياسات الخاصة المحلية القائمة على الفصل والعزل والتمييز ضد المهاجرين، وعدم القدرة على الخروج من حلم الهوية القومية النقية، ورغبات توحيد المجال الاجتماعي، وهي الرغبات التي تتخذ عنوانًا مضللاً يدعى "الاندماج"، والتي عبّرت عن نفسها أخيرًا، في فرنسا تحديدًا، في ممارسات متعددة تنفي التنوع، كانت تذكّر بحملات الإبادة التي شنّها الفرنسيون ضد بعضهم من قبل الثورة الفرنسية ومن بعدها.
وليست هذه المناقشة أبدًا تمييعًا للاعتداءات، ولا شكلاً مقنّعًا من التعاطف معها، ولا سيما أن عنف "داعش" الأساسي يستهدف مجتمعات المسلمين بالدرجة الأولى، وهي المجتمعات التي لم تختر حكامها كما لم تختر ولم ترض بـ "دولة داعش"، على خلاف المجتمعات الغربية التي يفترض، وبحسب الديمقراطيات الغربية، أنها ممثلة في حكوماتها، الأمر الذي يحمّل تلك المجتمعات مسؤوليات حقيقية تجاه أفعال القتل التي تقترفها الحكومات الغربية ضد الأمم والشعوب الأخرى، كما أن فعلة "داعش"، وبصرف النظر عن الموقف المبدئى منها، لا يمكن اكتشاف فائدة واحدة فيها لصالح قضايا العرب والمسلمين، بل إن العكس هو الصحيح.
ولكن هذه المناقشة ضرورية لكفّ هذه الأنماط الثابتة بما تتسم به من إرادة ابتزاز وإكراه ورغبة في تعميم الذلّ على المسلمين، وبما تقوم عليه من أساس وضيع يتمثل في كراهية الذات المسلمة والانسحاق أسفل الدعاية الغربية، وضرورية لمناقشة أخرى صحيحة فيما بيننا كمسلمين ومع غيرنا في هذا العالم، وعلى أساس نعرف فيه مشكلاتنا بالفعل كما نعرف بالضبط مشكلات الآخرين.