"داعش" ليس القضية. فهذا التنظيم الذي وجد في لحظة التباس عراقية وإقليمية ودولية، فرصة للسيطرة على مساحات واسعة في قلب الشرق الأوسط، ينال فرص التباسات أخرى تسمح ببقائه لأمد أطول، ومع تعدّد رايات الحرب، ثمة حقيقة باتت أكثر رسوخاً اليوم، مفادها أن الجميع، يتقدمهم العراقيون أنفسهم، لديهم أولويات أخرى أهم من إنهاء "داعش".
وبجمل بلا مواربة، يريد قادة سنّة العراق وزعماؤهم أن يكون القضاء على "داعش" عبر تحالف تقوده واشنطن، وينال تأييداً عربياً وتركياً، لتقويض توسّع إيران الإقليمي ونفوذها في العراق، ويدعم "المعارضات" السورية، وينهي مرحلة الأسد و"حزب الله" والفصائل الشيعية. السيناريو مختلف لدى قادة شيعة العراق وزعمائهم المصرّين على التحالف مع إيران وروسيا والأسد، بما يضمن إطلاق نفوذ الثورة الإيرانية في المنطقة على حساب دول الإقليم وأميركا المتهمة إيرانياً بدعم الإرهاب.
وينقسم قادة كرد العراق وزعماؤهم أيضاً، مع ملاحظة أن أربيل والسليمانية مع اختلافاتهما الكبيرة، لن تسعيا إلى تعطيل جهود إنهاء "داعش" من أي جهة جاءت، لكن في نطاق عدم المساس بالمصالح الكردية.
الانقسام السياسي العراقي لا يخصّ "داعش". فهو قائم منذ 2003، مع اختلاف المواقع. انتقل "الشيعة" من التحالف مع أميركا لإطاحة صدّام وضمان الحكم بعده، إلى التحالف مع إيران ورفع شعار "مقاومة الاحتلال الأميركي الذي يناصب الحكم الشيعي العداء". وانتقل "السنة" من العداء لأميركا التي سلّمت العراق لإيران، إلى دعوتها للتدخّل العسكري في العراق، ما دام سيغير مسارات النفوذ الإيراني.
لكن الانقسام الذي يقف "داعش" على هامشه مستفيداً منه، اكتسب أبعاداً أخرى مع دخول روسيا طرفاً مباشراً في سورية، ليكشف عن مفارقة لم تكن لتحدث لولا أن الحكام العراقيين قرروا أن يعاملوا أنفسهم وأن يعاملهم العالم، كما يعامل بشار الأسد نفسه ويعامله العالم.
فتجريدياً، كان يصعب تخيّل أن تقارن قوى وشخصيات سياسية تمتلك عبر انتخابات معترف بها دولياً، تمثيل نحو 60 في المئة من العراقيين، نفسها بالأسد الذي يُصنف دولياً اليوم، بأفضل أحواله، باعتباره زعيم أقلية ولا فرصة له في انتخابات نزيهة تتدخل الانتماءات المذهبية في تحديد خياراتها، كما الحال في العراق.
تلك المقارنة مريبة، فالأسد نجح في تحويل الثورة السورية إلى إرهاب وتخندق طائفي على حساب سورية نفسها، ومن ثم نجح في إدخال حزب الله وإيران والميليشيات العراقية لحماية حكمه، وأخيراً في جرّ روسيا إلى التدخل العسكري لمصلحته.
لكن حكام العراق فشلوا، ليس فقط في حكم بلد غني، بل في إدارة تحالفاتهم ما بعد حصولهم على الحكم، فاختاروا بإرادتهم تحويل العراق ساحة خلفية للسياسة الإقليمية الإيرانية، وعدواً لدوداً لدول المنطقة، مع أنهم امتلكوا الفرص المتتالية لإنتاج عراق مستقلّ وصديق لإيران والمنطقة والعالم.
فشلوا، عندما سمحوا لسياسات رعناء بقيادة البلد إلى الكارثة خلال سنوات، وفي التفاهم مع شركاء الوطن واحتواء مخاوفهم. صمتوا عن تسليم الأرض لـ "داعش". اعتقدوا أن إنقاذ الأسد سيمنحهم لدى إيران وروسيا ميزة إضافية لدعم حكمهم الهشّ، والأكثر مرارة أنهم آمنوا بأن في الإمكان ضمان بقاء شخصيات ومجموعات وقوى سياسية وميليشيات على سطح الخريطة بعد اختفاء اسم العراق منها!.
تلك ليست أزمة "داعش"... و"داعش" ليس مشكلة حتى لدى القوى السنية في العراق، التي تعاين موت مئات الأطفال في مخيمات النزوح، وتشرد آلاف العائلات أو رضوخ الآلاف مضطرين تحت حكم التطرف. فالقضية السياسية تستدعي ألا يتم القضاء على "داعش" وإعادة النازحين، قبل أن يتحدّد بالضبط اسم الطرف الذي سيقوم بالمهمة، وتوازنات المصالح التي تترتب على ذلك.
هنا أيضاً مفارقة أخرى، فالقوى السياسية السنية منشغلة في تحديد ملامح مستقبلها السياسي ما بعد "داعش"... من سيكون حاكم الدولة السنية المقبلة؟ أو من يكون زعيم الإقليم؟ هل سيتم بناء الجيش الجديد من الموصل أم الأنبار؟ وماذا عن اقتسام مشاريع الإعمار؟ بل إن خلاصةً أفتى بها سياسي سني محنّك مفادها: إن "عراقاً موحداً لن يكون ممكناً ما دامت إيران موحدة!".
يرفض الشيعة منح السنة حق تحرير أرضهم ولا يساعدونهم على ذلك، إلا عندما يكونون بمواصفات مشعان الجبوري، أو أن يرفعوا رايات "عصائب أهل الحق"، أو أن يزوروا قبر الإمام الخميني. لكن أميركا تمنحهم هذا الحق، وتعدهم أيضاً بحكم شبه مستقل على طريقة إقليم كردستان، مثلما تلمّح لهم بين الحين والآخر بأنها أخطأت في التحالف مع الشيعة، وأنها يمكن أن تصحح أخطاءها.
لا يشارك الكرد في القضاء على "داعش" إلا عندما يتعلق الأمر بالمناطق المتنازع عليها، فـ "الحدود يرسمها الدم لا قاعات المفاوضات"، لكنهم يختلفون على تلك الحدود، فـ "البيشمركة" التي تقاتل في الموصل، ليست نفسها في ديإلى، السلاح مختلف، والتحالفات مختلفة، والقيادات مختلفة، بل إن نظرية "كردستان الكبرى" نفسها مختلفة، والعلاقة مع أكراد إيران وتركيا وسورية مختلفة بدورها.
لن يكون في مقدور سياسيين عراقيين من كل الأطراف قيادة "العراق". هذا ليس ضمن أحلامهم وطموحاتهم حتى، ولم يعد في إمكانهم التحاور على فرضية "عراق ما بعد داعش"، فالمعركة يجب أن تفرز بنفسها أبطالها وروادها وحدود الطوائف فيها، والجميع في مرحلة انتظار مشروطة ومقيدة بإرادات الخارج.
يصدّق العراقيون واشنطن وإيران وروسيا، يصدقها الشيعة فيمضون مغمضين إلى قطع آخر خيوط الأمل بعراق موحد ما بعد "داعش"، ويصدقها السنة والكرد، فيرون أن وطناً موحداً سيعني إفناءهم.
"داعش" لم يعد المشكلة في العراق، بل لم يكن المشكلة حتى. الأرض المحتلة ليست أولوية، ولا مئات الآلاف من النازحين. الأزمة كانت وما زالت أن علــــى سنة العراق ألاّ يفوزوا باستقرارهم على أرضهم، وعلى شيعته ألاّ يفوزوا بحكم رشيد، وعلى كرده ألاّ يفوزوا بدولة على حدوده أو أنقاضه، تلك معادلة أكثر تعقيداً من كل تصورات حكام الطوائف المتـمــاهين مع حلفائهم، وقاعدة بيانات للجيران كان في الإمكان أن يراجعوها مبكراً، ليختاروا الحرب على "داعش" كمناسبة لإعادة ترميم خريطة وطن ممزقة، أو ملف ثانوي على طاولة تفاهمات إقليمية ودولية لن يتصرف الجالسون حولها إلا وفق مصالحهم.
(الحياة اللندنية)